تابع تفسير سورة البقرة ....
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] ..... (188) ثم إنتقل السياق الى تشريع آخر له مناسبة ما بـ "الأكل" الذي دار الكلام حوله في مسألة الصيام ((وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ)) بالغصب وما أشبه، وكان وجه ذكر كلمة "بينكم" أن الآكلين للغصب ونحوه يتآمرون بينهم في خفاء حتى يبرروا أكلهم ((وَتُدْلُواْ)) الإدلاء أي الإلقاء والإفضاء، أي تُلقوا ((بِهَا))، أي بتلك الأموال ((إِلَى الْحُكَّامِ)) جمع حاكم، بمعنى القضاة بعنوان الرشوة والهدية ليأخذوا جانبكم في أكل المال بالباطل ((لِتَأْكُلُواْ)) علّة "لتدلوا"، أي علّة إعطائكم الرشوة أن تأكلوا ((فَرِيقًا))، أي قسماً ((مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ)) بدون حق ((وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)) بأن أكلكم وإرشائكم باطل وإثم .....
(189) مرت أحكام كلها تحتاج الى التوقيت من صيام وإعتكاف ومحاكمات وغيرها فناسب أن يأتي تشريع الأهلّة هنا مع الغض عما تقدم من أن المقصود بيان جملة من الأحكام بعد بيان أصول التوحيد ((يَسْأَلُونَكَ)) يارسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ((عَنِ الأهِلَّةِ)) وعن سببإختلاف الهلال في كل شهر من الهلال الى البدر ثم الى الهلالحتى المحاق أو عن فائدة هذا الإختلاف ولماذا لم يكن القمر كالشمس في الإنتظام ((قُلْ)) يارسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في جوابهم ((هِيَ مَوَاقِيتُ)) جمع ميقات بمعنى الوقت والزمان ((لِلنَّاسِ)) في عبادتهم ومعاملاتهم ((وَ)) لـ ((الْحَجِّ)) فمن أقرض الى شهر أو باع ليقبض الثمن، أو يدفع الثمن بعد شهرين، أو أراد الصيام والإفطار أو الحج في أشهره لابد وأن يكون له مَعْلَمْ يستند إليه ولذلك جعل الله الأهلّة، وهذا الجواب ينطبق على السؤال بناءً على الوجه الثاني في معنى "يسألونك" وأما بناءً على الوجه الأول وسؤالهم كان عن سبب إختلاف الأهلّة فإن القرآن أعرض عن جوابهم لأن عقولهم ما كانت تتحمل الجواب الفلكي، ولذا أعرض عن ذلك الى فائدة الأهلّة التي هم أحوج إليها، كما في آية أخرى (يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين) حيث أعرض عن جواب ماهيّة المنفق، أي محل الإنفاق لأن هذا هو الذي يترتب عليه الفائدة وهم بحاجة إليه، وحيث ذكر الحج في الكلام إنتقل السياق الى ما كان يفعله الجاهليون من أنهم إذا أحرموا لم يدخلوا البيوت من أبوابها وإنما يدخلونها من ظهورها، فنهى عن ذلك، وفي هذا تلميح بأن السؤال عما لا يهمكم من الأهلّة، مثل إتيان البيوت من ظهورها وكالأكل من القفا ((وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ))تدخلوا ((الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا)) بأن تنقبوا لبيوت وتدخلونها من النقب ((وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى)) من الله سبحانه بإتيان أوامره وإجتناب نواهيه ((وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا)) ولو في حال الإحرام ((وَاتَّقُواْ اللّهَ)) في أوامره ونواهيه ((لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ))، أي لكي تفلحوا بالوصول الى السعادة الدنيوية والأخروية .....
( 190)وهنا حكم آخر من أحكام الإسلام الكثيرة وهو القتال والجهاد، ولقد كان بين هذا الحكم وبين "الحج" المتقدم مناسبة، إذ المشركون قد منعوا الرسول عن الحج عام الحديبية، فكان على المسلمين أن يتهيّئوا للجهاد إن إقتضت الظروف ((وَقَاتِلُواْ)) أيها المسلمون ((فِي سَبِيلِ اللّهِ)) لا لحب السيطرة والغلبة كما هو شأن ملوك الدنيا وزعمائها بل في سبيل إعلاء كلمة الله التي فيها سعادة البشر ((الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ)) لا كل آمن، فمن ألقى سلاحه وسكن الى محله فإن في قتاله إيجاد فوضى وإضطراب لا داعي إليهما ((وَلاَ تَعْتَدُواْ)) إذا قاتلتم من قاتلكم فإن القتال قتال دفاع، فلا معنى للإعتداء وأنتم مرتبطون بالله الذي تقاتلون لأجله فلا يصحّ الإعتداء من أمثالكم ((إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ)) فهم الذي يأمر بالعدل والإحسان، فكيف يحب من إعتدى وبغى ....
( 191)((وَاقْتُلُوهُمْ))، أي الذين يقاتلونكم ((حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ))، أي وجدتموهم ((وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ))، أي أخرجوكم من مكة كما أخرجوكم منها، فمن قاتلكم قتلتموه ومن أخرجكم من دياركم أخرجتموه جزاءً وِفاقا ((وَالْفِتْنَةُ)) التي أثاروها الكفار بتفتين المسلمين عن دينهم وإلقاء الإرتياب والشك في قلوبهم ليجلبوهم الى حظيرة الكفر بعد أن هداهم الله ((أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)) فإن القتل يوجب ذهاب الدنيا والفتنة توجب ذهاب الدين، فمن تقاتلوهم لا يستحقون عليكم أن يهرّجوا بأن المسلمين يشهرون السلاح فإنهم يستحقون القتل لأنهم بدأوا بالقتال لأنهم فُتنوا، وروي أنها نزلت في مسلم قتل كافراً في الشهر الحرام فعابوا المؤمنين بذلك، فبيّن سبحانه أن الفتنة التي تصدر من الكفار أشد من القتل ((وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ))، أي لا تقاتلوا الكافرين أيها المسلمين ((عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ))، أي في الحرم ((حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ)) ويبدأوا بالقتال ((فَإِن قَاتَلُوكُمْ)) بدأوكم بالقتال في الحرم ((فَاقْتُلُوهُمْ)) هناك ((كَذَلِكَ)) الذي مرّ من وجوب قتال الكفار حيث وجدوا الي آخر ما ذُكر ((جَزَاء الْكَافِرِينَ))...
( 192)((فَإِنِ انتَهَوْاْ)) عن الكفر بأن أسلموا ((فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ)) يغفر سيئاتهم حتى ما ارتكبوها قبل إسلامهم من القتال فإن الإسلام يجبّ ما قبله ((رَّحِيمٌ)) بعباده المؤمنين .....
(193)((وَقَاتِلُوهُمْ))، أي الكفار الذين يقاتلونكم لا لأجل القصاص فقط بل ((حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ)) بأن لا يُفتن المسلمون عن دينهم ((وَيَكُونَ الدِّينُ)) والطريقة ((لِلّهِ)) فلا يبقى منهج لسواه بأن ينتصر الحق على الباطل وهذان هما الغاية من إيجاب الدفاع ((فَإِنِ انتَهَواْ)) عن الكفر ((فَلاَ عُدْوَانَ))، أي تعدي بالدفاع والقتال ((إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ)) الباقين على كفرهم، أي فإذا إنتهى المعتدون عن الفتنة والتعرّض لدين الله والتعرّض للمسلمين بالأذى والقتال فلا قتال معهم لأن القتال لا يكون إلا مع الظالمين، وسميّ "عدواناً" تشبيهاً كما قال: (فمن إعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما إعتدى عليكم).
(194) ((الشَّهْرُ الْحَرَامُ)) وهو ذي القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب وسميّت هذه الأشهر حراماً لتحريم القتال فيها ((بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ))، أي بمقابل الشهر الحرام فمن إنتهك حُرمة الشهر الحرام بالقتال فيه حرم من المسلم فيه بل يقاتل ((وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ)) كما أن الجروح قصاص فمن إنتهك حرمة إقتصّ منه في نفس الشهر أو المكان الذي إنتهك حرمته ولذا يُحارب المحارب في الحرم وفي الشهر الحرام ((فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)) لا أزيد من ذلك وسميّ إعتداء لأنه مثل الإعتداء فالتسمية إنما هي بالمجانسة ((وَاتَّقُواْ اللّهَ)) فلا تتجاوزوا الحدود ولا تبالغوا في القسوة والإنتقام ((وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)) فيأخذ بأيديهم في الدنيا ويسعدهم في الآخرة ........
(195)((وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ)) فإن الجهاد يحتاج الى الإنفاق المجهّز للجيش وهو من أعظم السُبُل ((وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ))، أي لا تلقوا أنفسكم بأيديكم ((إِلَى التَّهْلُكَةِ)) بترك الإنفاق للجهاد حتى يتسلّط عليكم العدو ((وَأَحْسِنُوَاْ)) في إنفاقكم وجهادكم وسائر أموركم ((إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) ...........
(196)ثم رجع السياق الى أحكام الحج الذي ألمح إليه فيما سبق لأن الحج كان في مقام صلح الحديبية وحج النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ((وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ))، أي إئتوا بها تماماً وكاملاً بإتيان مناسكهما قُربة الى الله تعالى لا لأجل رياء أو سمعة أو نحوهما ((فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ)) بأن منعكم مانع عن الحج بعدما أُحرمتم ((فَـ)) عليكم إذا أردتم التحلّل عن الإحرام أن تقدّموا أو تذبحوا ((مَا اسْتَيْسَرَ))، أي ما أمكنكم ((مِنَ الْهَدْيِ)) الذي قدمتموه الى الله، والهدي هو البقرة أو الإبل أو الغنم ((وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ)) وهو كناية عن التحلّل عن الأجسام، أي لا تحلقوا ((حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ)) الذي قرّر في الشريعة من محل الحصى أو مكة أو منى كما فصّل في الفقه ((فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً)) لا يتمكن من أن لا يحلق ((أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ)) كانقمل رأسه فيتأذى من هوائه فلا يتمكن من عدم الحلق ((فَـ)) عليه إذا حلّق قبل أن يبلغ الهدي محلّه ((فِدْيَةٌ)) يقدّمها بدل حلقه ((مِّن صِيَامٍ)) ثلاثة أيام ((أَوْ صَدَقَةٍ)) لستة مساكين ((أَوْ نُسُكٍ))، أي شاة يذبحها لأجل تعجيله في الحلق ((فَإِذَا أَمِنتُمْ)) من العدو الصاد وكذلك شُفيتم من المرض وزال المانع ((فَمَن تَمَتَّعَ))، أي إستمتع بالطيب والنساء وسائر الملذّات التي يحرًمها الإحرام ((بِـ)) سبب إتيانه ((الْعُمْرَةِ)) فإن العمرة تنتهي سريعاً فتحلّ المحرّمات ((إِلَى الْحَجِّ))، أي تكون تمتعه بالملذات الى أن يُحرم للحج ((فَـ)) عليه ((مَا اسْتَيْسَرَ))، أي ما تمكّن عليه ((مِنَ الْهَدْيِ)) إبل أو بقر أو شاة يجب عليه ذبحها في منى أيام العيد ((فَمَن لَّمْ يَجِدْ)) الهدي ((فَـ)) عليه ((صِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي)) أيام ((الْحَجِّ)) من ذي الحجة ((وَسَبْعَةٍ)) أيام ((إِذَا رَجَعْتُمْ)) الى بلادكم ((تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)) تكون بدلاً عن الهدي ((ذَلِكَ)) التمتع الذي يكون عمرته مقدمة على حجة فرض ((لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)) من كان في أطراف الحرم من كل جانب إثني عشر ميلاً أو نحوه على خلاف، أما من كان أهله حاضري المسجد الحرام بأن كان محله عند أقل من ذلك ففرصه القِران أو الإفراد وفي كليهما يقدّم الحج على العمرة، والفرق بينهما أن القِران يعقد إحرامه بسَوق الهدي دون المفرد ((وَاتَّقُواْ اللّهَ)) في أحكامه أيها المسلمون ((وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) فلا تخالفوا أوامره ونواهيه والحج يشتمل على فرضين "عمرة" هي: الإحرام، الطواف بالبيت، صلاة الطواف، السعي بين الصفا والمروة، والتقصير، و(حج) هو: الإحرام، الوقوف بعرفات، الوقوف بالمشعر، الإفاضة الى منى، رمي جمرة العقبة، نحر أو ذبح، حلق أو تقصير، طواف النساء، صلاة طواف النساء، السعي بين الصفا والمروة، طواف الزيارة، صلاة طواف الزيارة، المبيت بمنى ليلة الحادي عشر والثانية عشر، ورمي الجمار الثلاث يومي الحادي عشر والثانية عشر .....
(197)((الْحَجُّ)) في ((أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ)) أو أشهر الحج أشهر معلومات وهو شوال وذو القعدة وذو الحجة فلا يجوز تأخيره منها كما كان الجاهلون يفعلون حيث يؤخرون الحج، ونزل فيهم (إنما النسيء زيادة في الكفر) ((فَمَن فَرَضَ)) على نفسه ((فِيهِنَّ))، أي في هذه الأشهر ((الْحَجَّ فَـ)) ليعلم أنه ((لاَ رَفَثَ)) وهو الجماع ((وَلاَ فُسُوقَ)) وهو السباب والمفاخرة ((وَلاَ جِدَالَ)) قول: (لا والله) و(بلى والله) ((فِي الْحَجِّ))، أي في حال الإحرام ((وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ)) في الحج وغيره ((يَعْلَمْهُ اللّهُ)) ولعلّ ذكره هنا لكثرة إحتياج الحجاج بعضهم الى بعض في مختلف الشؤون فأُريدَ التنبيه بأن كل خير يصدر من الإنسان إنما هو بعلم الله سبحانه فيجازيه على ذلك ((وَتَزَوَّدُواْ)) من الحج زاداً للروح ((فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)) وهو يحصل بكثرة هائلة في الحج حيث التجرّد والكف عن الملذات ومقامات الشدائد والصعوبات، ويُحتمل أنها نزلت فيمن لم يكن يأخذ الزاد للحج بإدّعاء أنه ضيف الله ثم ليستعطي في الطريق فأمر بأخذ الزاد فإنه قرين بالتقوى دون الإستعطاء الذي فيه منقصة وذلة وحُرمة أحياناً ((وَاتَّقُونِ))، أي خافوني في أعمالكم فلا تغفلوا ولا تتركوا واجباً ((يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ))، أي ياأصحاب العقول .....
(198) كانوا يتأثمون بالتجارة في الحج نزلت ((لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ)) بالإتجار فإنه ليس بمحرّم ((فَإِذَا أَفَضْتُم)) منها كما يندفع الماء نحو الوهاد فإن الحجاج يندفعون كالسيل ((مِّنْ عَرَفَاتٍ)) ((فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ)) وهو الموقف الثاني وقته بين طلوع الفجر وطلوع الشمس من يوم العيد ((وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ))، أي بإزاء هدايته سبحانه إياكم لدينه وما يُسعدكم في الدنيا والآخرة ((وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ))، أي قبل الهدي ((لَمِنَ الضَّآلِّينَ)) عن دينه .....
(199)((ثُمَّ أَفِيضُواْ)) من المشعر الى منى ((مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)) من قبلكم إبراهيم (عليه السلام) وذريته ((وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ)) إطلبوا غفرانه وعفوه ((إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) هكذا يقتضي نُظم الآية لكن ورد أن قريشاً كانوا لا يقفون بعرفات ولا يفيضون منه ويقولون نحن أهل حرم الله فلا نخرج منه فيقفون بالمشعر ويفيضون منه، فأمرهم الله أن يقفوا بعرفات ويفيضوا منه كسائر الناس .
(200)((فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ))، أي أدّيتم أعمالك فإنّ المناسك جمع منسك وهو مصدر ميمي بمعنى العمل ((فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)) فإنّ أهل الجاهلية كانوا إذا فرغوا من الحج يجتمعون هناك ويعدّون مفاخر آبائهم ومآثرهم ويذكرون أيامهم القديمة وأياديهم الجسيمة فأمرهم الله أن يذكروه عوض ذكرهم آبائهم، بل يجب أن يذكروه أكثر وأحسن من ذكر آبائهم فهو المنعم الحقيقي الذي بيده كل شيء ومنه كل خير، وهنا يكون المجال واسعاً لبيان نموذجين من الناس منهم من يريد الآخرة ومنهم من يريد الدنيا، ولذا قال تعالى ((فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا))، أي إعطنا من نعيمها ورفاهها وسعادتها ولا يسأل نعيم الآخرة لأنه غير مؤمن بها إذ كان الحج قبل الإسلام عاماً للمعتقِد والمُنكِر ((وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ))، أي نصيب .....
(201)((وِمِنْهُم))، أي من الناس ((مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا)) من وقى، أي إحفظنا من ((عَذَابَ النَّارِ)) فهو يسأل نعيم الدنيا ونعيم الآخرة ويتعوذ بالله من النار ...
(202)((أُولَئِكَ)) يسألون خير الدنيا والآخرة ((لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ)) لأنهم يستحقون ثواب أعمالهم بخلاف الطائفة الأولى فإنّ كفرهم يمنع عن ثوابهم ((وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)) فلا يظن الإنسان الآخرة بعيدة فإنه لا تمر الأيام والليالي إلا والشخص دفين في التراب وإن طال عمره في الدنيا .....
(203)((وَاذْكُرُواْ اللّهَ)) أيها الحجاج ((فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ)) وهي أيام التشريق في منى ((فَمَن تَعَجَّلَ)) النفر الى مكة من منى ((فِي يَوْمَيْنِ)) بأن نفر يوم الثاني عشر ((فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ)) فإنه يجوز النفر بعد زوال الثاني عشر ((وَمَن تَأَخَّرَ)) في النفر فنَفَرَ في الثالث عشر ((فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)) فإنه يجوز كل من الأمرين ((لِمَنِ اتَّقَى)) الصيد في إحرامه وإلا فإن صاد وجب عليه النفر الثاني فلا يجوز أن ينفر في الثاني عشر ((وَاتَّقُواْ اللّهَ)) فيما أمركم ونهاكم ((وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)) الحشر هو الجمع والمعنى تُجمعون الى حكم الله وجزائه يوم القيامة ....
(204)ثم يلتفت السياق الى الإنسان طالِحُهُ وصالِحُهُ، ويبيّن خصائص البشر، ليعطي درساً لمن أراد الصلاح والرشاد فيقول سبحانه ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ)) للباقته وفصاحته وكلامه المعسول فتستحسن كلامه وتصغي الى بيانه ((فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) أما متعلّق بـ(قوله)، أي قوله في شؤون الدنيا معجب، أو متعلق بـ(يعجبك)، أي إن إعجابك إنما هو في الدنيا، والأول أقرب ((وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ)) كما هو شأن المنافقين أبداً فإنهم حيث يرون نفاقهم يظنون أن الناس مطّلعون على سرائرهم فيؤكّدون بأنهم مخلصون وإنّ ما في قلبهم يطابق ما على لسانهم ((هُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ)) الألدّ هو شديد الخصومة، والخصام جمع يعني أنه من أكبر خصمائك في الباطن ..........
(205)((وَإِذَا تَوَلَّى)) وأدبر وذهب من عندك ((سَعَى فِي الأَرْضِ)) من هنا الى هناك كما هو شأن المشاغِب المُفسِد ((لِيُفْسِدَ فِيِهَا)) بإثارة الفوضىوالإضطراب ((وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ))، أي الزراعة ((وَالنَّسْلَ))، أي الأولاد والذرّيّة، فإن إثارة الفوضى يوجب خراب الزراعات لإشتغال أهلها بالكفاح، وفناء النسل إذ الشباب دائماً يُقدمون على الحرب والجلاء ((وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ)) ....
(206)((وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ)) في عملك فلا تُفسد ((أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ))، أي حملته عزّته وحميّته الجاهلية بأن يأثم لأنه لا يرضخ للحق ولا يعتني به ((فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ))، أي تمكينه جهنم جزاءً له ((وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ))، أي محل القرار، وهذه الآيات نزلت في المنافقين أو في فرد خاص منهم يُسمّى "الأخنس بن شريق" كان يُظهر المحبة بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويُبطن الفساد والنفاق، ولعل وجه إرتباط هذه الآيات بالحج أن الكلام إنتهى هناك حول من يفتخر بالآباء إعتزازاً بالنفس وهذا مثلهم في الإعتزاز والإغترار ....
(207)((وَمِنَ النَّاسِ))، أي بعض الناس ((مَن يَشْرِي))، أي يبيع فإنّ كلّاً من البيع والشراء يجيء بمعنى الآخر ((نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ))، أي لأجل طلب رضاه سبحانه ((وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ)) يرئف بهم فيجازيهم لعملهم الحسن، ولعل ذكر الرأفة لأجل أن هذا البيع يحتوي على أخطاء وأضرار ففيه تنبيه الى أن الله رؤوف يجنّب البائع والأخطار والأضرار، وهذه الآية نزلت في الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) حين نام في فراش الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليلة الهجرة ......
(208) وحين ذكر أن من الناس من هو منافق ناسب الإرشاد العام فقال سبحانه ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ)) باللسان ((ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ)) مع الله ورسوله في جميع أموركم ((كَآفَّةً))، أي جميعاً فاستسلموا للدين في جميع شؤونكم ((وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ)) بأن تخالفوا أمر الله سبحانه وتتبعوا أمر الشيطان وما يوحي إليه الهوى ((إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ))، أي عدو ظاهر لأنه يأمر بالمفاسد التي ترجع الى ذهاب دينكم ودنياكم ........
(209)((فَإِن زَلَلْتُمْ)) تشبيه للذنب بمن يزلّ له قدم ((مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ)) الأدلة الواضحة على الحق ((فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ)) فلا يمتنع عليه العذاب والعقاب بمن زلّ ((حَكِيمٌ)) في فعله ليعفو عمن يشاء ويعذب من يشاء .....
(210)وهنا يعود السياق الى من يأخذخ العزة فيقول سبحانه ((هَلْ يَنظُرُونَ)) النظر بمعنى الإنتظار، أي هل ينتظر هؤلاء المنافقون ((إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ)) حتى يؤمنوا ويُقلعوا عن نفاقهم وكفرهم ((فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ)) ظُلل جمع ظُلّة وهي ما يُستظل به من الشمس، وسميّ السحاب ظُلّة لأنه يُستظَل به من الشمس، والغمام هو السحاب، وقد كانت اليهود تزعم أنّ الله ينزل في ظُلل من الغمام وكذلك ينزل الملائكة معه ولذا قال ((وَالْمَلآئِكَةُ)) عطفاً على "الله" ((وَقُضِيَ الأَمْرُ))، أي يوم يتغير الكون عن وضعه لا يبقى بعد مجال للتكليف فإنما هو يوم القيامة ((وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ)) ويكون ذلك اليوم يوم حساب وعقاب وثواب، لا يوم عمل وشغل، فالآية تشير الى أساطير أهل الكتاب متهكماً ساخرا،ً ثم يهدّد ويوعد بأن الأمر يقضي فلا مجال بعد للتكليف .....
(211)وحيث أُشير الى أسطورة إسرائيلية، توجّه السياق الى تأنيب بني إسرائيل الذين كانوا يعاندون في إنكارهم للآيات ((سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ))، أي أعطيناهم أدلّة واضحة ومع ذلك عاندوا ولم يؤمنوا ((وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ)) كفراً فلا يؤمن بآياته ((مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) فليهيّء نفسه لعقابه ......
(212)((زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا))، أي الحياة القريبة مقابل الحياة البعيدة وهي الآخرة والتي زيّنها لهم هي مجموعة عوامل بعضها حق وبعضها باطل، فإن الحياة خلقها الله جميلة تزيّن نفسها كما أن الشيطان والنفس والهوى تزيّن الحياة لتصرف الناس عن الآخرة ((وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ)) حيث يرونهم منصرفين عنها مقبلين الى الآخرة -التي لا يعتقد هؤلاء الكفار بها- ((وَالَّذِينَ اتَّقَواْ)) من المؤمنين ((فَوْقَهُمْ))، أي فوق هؤلاء الكفار منزلة ومقاماً ورُتبة ((يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) لأنهم عملوا لها فأدركوا خيرها والكفار لم يعملوا فيبقون هناك سائلين ((وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ)) فالرزق في الدنيا ليس بالكفر والتوجّه إليها حتى يحرم أهل الآخرة منها بل الرزق يصيب الكافر والمؤمن، فالمؤمن منعّم في الدنيا وفوق الكافر في الآخرة .....
(213)إن كل حركة إصلاحية لابد وأن تشق صفوف الناس المتصافقة على الفساد وهكذا كان بعث الأنبياء فقد ((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ)) لمن آمن وأصلح ((وَمُنذِرِينَ)) لمن كفر وعصى ((وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ)) قيد توضيحي، إذ كل إنزال من الله بالحق وإنما أُكّد لمقابلته لسائر الكتب التي ترسلها رؤساء الحكومات الى رعاياها فإن منها ما هو باطل ((لِيَحْكُمَ)) ذلك الكتاب ((بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ)) من أمور معاملاتهم وسائر معاشراتهم والإختلاف هنا لا ينافي كون الناس أمة واحدة إذ وحدة الأمة تجتمع مع هذا النوع من الإختلاف ثم صار نفس الكتاب محلاً لإختلاف الأمة فيه لكن هذا الإختلاف ليس عن واقع وشك لأن الكتاب واضح بل عن حسد وبغي وطمع ((وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ))، أي في الكتاب بأن فسّره كلٌّ حسب نظره وهواه ((إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ))، أي الأدلة الواضحة على معاني الكتاب ((مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ))، أي الأدلة الواضحة على معاني الكتاب ((بَغْيًا بَيْنَهُمْ))، أي الإختلاف إنما نشأ من البغي والظلم والحسد التي حصلت بينهم ((فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ)) حقيقة وأرادوا إتباع أحكام الله واقعاً ((لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ))، أي للشيء الذي إختلفت الأمة فيه ((بِإِذْنِهِ))، أي بلطفه بهم حيث هداهم ((وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) أما معناه الإيصال الى المطلوب وهو ليس بواجب بالنسبة الى الجميع وأما معناه أرائه الطريق، ومعنى "من يشاء" أنه لو لم يشأ لا يهدي أحد إذ الهداية لا تكون إلا بإرسال الرُسُل، والأول أنسب بالسياق .....
(214)ثم يسأل الله المؤمنين الذين وقعوا في متاعب هذا الخلاف حيث يحاربونهم الكفار لأجل أنهم إهتدوا بهدى الله ((أَمْ حَسِبْتُمْ))، أي بل حسبتم وظننتم أيها المسلمون ((أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ)) إعتباطاً وبلا مشقة وحرج ((وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ))، أي مضوا ((مِن قَبْلِكُم))، أي لم يأتكم بعد إمتحان مثل إمتحان الأمم المؤمنة السالفة الذين ثبتوا وصبروا تجاه الأحزان والكوارث وإنما قال "مثل" لأنهم صاروا مثلاً للصبر وتحمّل المكاره ((مَّسَّتْهُمُ))، أي لمستهم ((الْبَأْسَاء)) الفقر ((وَالضَّرَّاء)) المرض والحرج ,اشباههما ((وَزُلْزِلُواْ))، أي حُرّكوا بأنواع المحن والبلايا ((حَتَّى)) وصل الحال الى أن ((يَقُولَ الرَّسُولُ)) لتلك الأمم ((وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ)) إستعجالاً للنصر الموعود وتمنيّاً للخلاص من الشدائد والمحن، فإستُدرك الأمر وأُجيب سؤالهم بأنه ((أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ)) وهذا جواب طبعي يقوله الرسول والمؤمنون كلما رأوا البلاء والمحن، وفي هذه الآية تعبير المؤمنين وأنهم إنما يفوزون بسعادة الدنيا والآخرة بعد مثل هذه الكوارث والمتاعب ......
(215)ويأتي هنا دور أسئلة وُجّهت الى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أجاب عنها القرآن الكريم يجمعها الإنقلاع عن الملذات والصبر على الطاعة وبهذا يرتبط السياق بما قبله حيث كان الكلام في معرض التضحية في سبيل العقيدة والإيمان وما يأتي نوع من التضحية ((يَسْأَلُونَكَ)) يارسول الله ((مَاذَا يُنفِقُونَ)) في سبيل الله من أقسام الأموال ((قُلْ)) ليس لهم الإنفاق فإنه أي شيء كان يُقبل إذا كان المُنفَق عليه أهلاً كما أنه لا يُقبل إذا كان المنفَق عليه غير أهل، فمعيار الإنفاق ليس ماهيّة المنفِق وإنما شخص المنفَق عليه فـ ((مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَـ)) اللازم أن يكون ((لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ)) أقربائكم ((وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)) وأشباه ذلك مما يُقصد به وجه الله سبحانه ((وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ))إنفاق أو غيره ((فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ)) فيجازيكم بالخير خيراً، وروي أنها نزلت في "عمرو بن الجموح" وكان شيخاً كبيراً كثير المال فقال: يارسول الله بماذا أتصدّق؟ وعلى مَن أتصدّق؟ فأنزل الله هذه الآية ......
(216)ثم رجع السياق الى الآية السابقة التي فيها ذكر التضحية والزلزال ((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ)) مع مَن تعدّى عليكم أو على العقيدة الصحيحة أو على الناس ((وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ)) تكرهونه ((وَعَسَى)) بمعنى "قد" وما بعده فاعله ((أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)) والقتال من ذلك فإنه يوجب سيادتكم وسعادتكم ((وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ)) وترك القتال كذلك لما فيه من راحة الجسم وعدم إضطراب القلب لكنه شر لما فيه من زوال السيادة والعزة وتسلط الكفار والأجانب ((وَاللّهُ يَعْلَمُ)) ما فيه خيركم وشركم ((وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)) .....
(217) بعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بسريّة فإتُّفق إن قاتلت في شهر رجب وهي تتردد في أن اليوم الذي حاربت فيه من جمادي أو رجب، وشهر رجب من الأشهر الحرم، ولذا كثر صخب المشركين وأنه كيف يقاتل الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في شهر حرام وأتى وفدهم الى المدينة يسألون الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن ذلك فنزلت هذه الآية ((يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ)) بدل شهر، أي يسألونك يارسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من القتال في الشهر الحرام ((قُلْ قِتَالٌ فِيهِ))، أي في الشهر الحرام ((كَبِيرٌ)) في نفسه لا يجوز ((وَ)) لكن ليس كُبر ذنبه مثل عِظَم ذنب ما تفعلونه أنتم أيها المشركون فـ ((صَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ))، أي المنع عنه لا يُسلم أحد ((وَكُفْرٌ بِهِ))، أي بالله سبحانه ((وَ)) صد عن ((الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)) لئلا يحج المسلمون ((وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ))، أي أهل المسجد الحرام ((مِنْهُ)) كما فعل المشركون بالنبي والمسلمين ((أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ)) فكيف تؤاخذون المسلمين بذنب مهما عظم وتنسون ذنوبكم التي هي أعظم منه ((وَالْفِتْنَةُ)) التي أنتم تُقيمون عليها من تفتين المسلمين عن دينهم وإغرائهم بالكفر بعد الإسلام ((أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)) الذي صدر من المسلمين فإن القتل يفسد دنيا المقتول والفتنة تُفسد دين المفتتن وأخراه ((وَلاَ يَزَالُونَ))، أي لا يزال الكفار ((يُقَاتِلُونَكُمْ)) أيها المسلمون ((حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ)) الى الكفر ((إِنِ اسْتَطَاعُواْ)) أن يردّوكم ((وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ)) أيها المسلمون ((عَن دِينِهِ)) الى الكفر ((فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ)) في مقابل مَن إرتدّ ورجع حتى مات مؤمناً ((فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ)) والحبط هو الإنبطال والإفناء فلا حسنة لهم ولم ينتفعوا بإيمانهم السابق على الكفر ((فِي الدُّنْيَا)) فليس لهم إحترام المسلم وحقوقه ((وَالآخِرَةِ)) فلا يجزى بالجنة والثواب ((وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) الى الأبد .....
(218) وهناك ظنّ أناس أن القاتل في رجب إن سَلِم من الإثم لم يكن له أجر لأنه إنتهك حُرمة الشهر الحرام فأنزل الله ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ)) بأن قطعوا ديارهم وأهليهم وخلفوا أموالهم لأجل أن يكونوا مع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ((وَجَاهَدُواْ))، أي أوقعوا أنفسهم في الجهد والتعب، وأوضح فرد له المقاتلة ((فِي سَبِيلِ اللّهِ)) لكسب مراضيه ((أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ)) يأملونها في الدنيا والآخرة ((وَاللّهُ غَفُورٌ)) ليغفر من زلّ و ((رَّحِيمٌ)) بعباده المؤمنين فلا ينقص أجورهم وإنما قال "يرجون" لأن الإنسان لا يدري ما حاله في المستقبل وأنه هل يبقى على الإيمان والصلاح حتى يثأب أم يفتن في دينه حتى يحبط عمله .....
(219)((يَسْأَلُونَكَ)) يارسول الله ((عَنِ الْخَمْرِ)) وهي كل مُسكر وأظهر أفراده المسكر المتخذ من العنب ((وَالْمَيْسِرِ)) وهو القمار بجميع أصنافه والسؤال كان عن حكمها ((قُلْ)) يامحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ((فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ))، أي وِزر عظيم لما فيهما من الفساد الكبير ((وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)) فإن الخمر تفيد اللذة والطرب وفي الإتجار بها ثمن وربح والقمار فيه لذة للاعب وربح للفائز ((وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا)) إذ الفساد الذي يسببانه في البدن والعقل والمال أكبر من اللذة والربح الذي يحصل بسببهما بالإضافة الى العقوبة الأخروية التي تصيب الإنسان من جرائها، ((وَيَسْأَلُونَكَ)) يارسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ((مَاذَا يُنفِقُونَ)) وهنا جاء الجواب طبق السؤال وأنه "ماذا" لا أنه "لمن" فقال ((قُلِ)) يامحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ((الْعَفْوَ))، أي الزائد من المال على النفقة فإنّ ما بقدر نفقة النفس والأهل لا يُنفق تقديماً لواجبي النفقة على غيره وهذا الإنفاق مستحب لما دلّ على حصر الحقوق الواجبة في أمور معدودة ((كَذَلِكَ))، أي هكذا يارسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فإن كذا تشبيه وإشارة والكاف الملحق بها اللام للخطاب ((يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ)) الأدلة المرتبطة بالتشريعات ((لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ))، أي لكي تتفكروا .....
(220)((فِي)) أمر ((الدُّنْيَا)) ((وَ)) أمر ((الآخِرَةِ)) فتجمعوهما في التفكير ثم ترون جمال الأحكام إذ التفكير في الدنيا فقط يوجب شلل قسم من الأحكام فلماذا ينفق الإنسان -مثلاً- وهو بحاجة الى المال، كما إنّ التفكير في الآخرة فقط يوجب شلل قسم آخر من الأحكام فإنها لا يصرف جميع أمواله لتحصيل أجر الآخرة وهكذا سائر الأحكام فإنها لا يُعرف جمالها إلاّ إذا إفتكر الإنسان في كلتا الحياتين وعرف المصلحتين ((وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى)) كيف يعاشرونهم فقد ورد أنه لما نزل (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) ذهب كل من عنده يتيم ليعزل اليتيم في مأكله ومشربه عن نفسه لئلاّ يبتلي بماله واشتدّ ذلك عليهم فسألوا عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فنزلت ((قُلْ)) يارسول الله ((إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ)) بأن يصلح الإنسان أموال اليتيم ويعاشره معاشرة المصلحين بدون أجرة وعوض خير من عزلهم وطردهم ((وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ)) بأن تخلطوا أموالهم بأموالكم وتشاركون معهم بالنسبة وحفظ المقدار ((فَـ)) هم ((إِخْوَانُكُمْ)) في الإيمان والأخ يعاشر الأخ بالإصلاح والغبطة ((وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ)) فهو عارف بنيّة المخالطين للأيتام وأنهم يريدون لالمخالطة والإفساد وأكل مال اليتيم أو الإصلاح والتحفّظ على اليتيم حتى يبلغ ويرشد ((وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ))، أي أوقعكم في العنت والمشقّة بالنسبة الى اليتيم بأن يوجب الإجتناب عن أموالهم وإعتزال أموالكم عن أموالهم فحيث لم يفعل أنه ذلك رحمة بكم فلا تأكلوا أموالهم فساداً وطمعاً ((إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ)) فهو يقدر -بعزته- من إعناتكم ((حَكِيمٌ)) لا يفعل إلا الصلاح وما تقتضيه الحكمة .....
(221) ثم إنتقل السياق الى فئة من أحكام الأسرة في النكاح والطلاق وشؤونها ولعل الإرتباط العام بين هذه الآيات والآيات السابقة أنها إنتهت الى حكم اليتيم، فاللازم بيان العش الذي يتربّى فيه فراخ الإنسان، وأنه كيف يلزم أن يكون لينشأ الأولاد صالحين أصحاء جسماً وعقلاً وعاطفة ((وَلاَ تَنكِحُواْ)) أيها الرجال المسلمون النساء ((الْمُشْرِكَاتِ)) سواء كُنّ أهل كتاب أم لا فإنّ أهل الكتاب أيضاً مشركون كما قال سبحانه: (تعالى الله عمّا يُشركون) ((حَتَّى يُؤْمِنَّ)) ويدخلن في الإسلام ((وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ)) تلك المشركة لجمالها أو مالها أو حسبها أو نسبها ((وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ)) بناتكم أيها المسلمون ((حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ)) تزوّجوه بنتكم ((خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ)) ذلك المشرك ((أُوْلَئِكَ)) المشركات والمشركون ((يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ)) أما بالتبليغ وأما بحكم دينهم فإنّ جليس الإنسان إذا كان غير متدين لابد وأن يسري الى جليسه ((وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ))، أي غفران الذنوب ((بِإِذْنِهِ)) فالمسلمات والمسلمون حين أخذوا مبادئهم عن الله سبحانه لابد وأن يدعون بلسانهم أو بحكم دينهم الى الجنة ((وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ)) أحكامه ودلائله ((لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ))، أي لكي يتذكّرون ويتّعظوا ويرشدوا .....
(222)((وَيَسْأَلُونَكَ)) يارسول الله ((عَنِ الْمَحِيضِ)) الحيض والمحيض بمعنى واحد وأنه هل يجوز مقاربة النساء في حالة الحيض أم لا ((قُلْ)) يامحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ((هُوَ))، أي المحيض ((أَذًى)) قذر نجس أو مشقة ((فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ)) والإعتزال هو الإبتعاد عنهم و((وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ)) بالجماع ((حَتَّىَ يَطْهُرْنَ)) وينظفن عن الدم ((فَإِذَا تَطَهَّرْنَ)) عن الدم ((فَأْتُوهُنَّ)) جامعوهنّ ((مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ)) بمقاربتهنّ من الفرج الذي هو محل الدم ((إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ)) الذين يرجعون كثيراً عن ذنوبهم الى الندم والإستغفار بمعنى أنهم كلما أذنبوا تابوا ورجعوا واستغفروا، ولعلّ ذكر التواب بمناسبة أنّ من زلّ فقارب في المحيض يقبل الله توبته وإن تكرر منه إذا ندم ندماً حقيقياً وتاب توبة نصوحاً ((وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)) بالماء عن الأقذار الباطنية والظاهرية أو بالإستغفار عن الذنوب ......
(223)((نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ))، أي مزرعة ومحترث فكما يحرث الحارث البذر في الأرض كذلك يحرث الرجل في زوجته ((فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ)) وزرعكم ((أَنَّى شِئْتُمْ)) "أنّى" أما زمانية بمعنى أي وقت شئتم باستثناء أيام الحيض التي سبق أنها لا يجوز وسائر ما استثنى من حال الصوم والإحرام وشبههما، وأما مكانية أي إتيانها في قُبُلِها من خلفها أو قدّامها أو جانبها، وأما بمعنى الكيفية باركة ونائمة وقائمة، أما أن يُراد السبيلان فبعيد عن سياق الآية ((وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ)) بالولد فإنه يبقى ذخراً لكم، أو قدّموا لأنفسكم بالطاعة حيث ذُكرت أوامر ونواهي ((وَاتَّقُواْ اللّهَ)) في أوامره ونواهيه ((وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ)) والملاقات هنا بمعنى أنه عليكم حساب الملاقي لملاقيه ((وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)) بأنهم يفوزون بكل كرامة .....
(224) وناسب قصة النساء حلف إبن رواحة حين حلف أن لا يدخل على ختنه ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين إمرأته فكان يقول أني حلفت بهذا فلا يحلّ لي أن أفعله، فنزلت الآية مما ناسب قصة العائلة والنساء التي سبقت وتأتي، فقال سبحانه ((وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً))، أي معرضاً ((لِّأَيْمَانِكُمْ)) بأن تحلفوا به ((أَن تَبَرُّواْ))، أي لئلا تبرّوا، أي تريدون بالحلف عدم البِر ((وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ))، أي وعدم التقوى وعدم الإصلاح، فإن هذه اليمين فاسدة لا تنعقد ((وَاللّهُ سَمِيعٌ)) لأيمانكم وأقوالكم ((عَلِيمٌ)) بأحوالكم ونيّاتكم ....
(225)((لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ)) ولا يعاقبكم ((بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ)) دمع يمين، ويمين اللغو هو ما يجري على عادة الناس من قوله "لا والله" و"بلى والله" من غير عقد على يمين يقتطع بها مال ولا يظلم بها أحد ((وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ))، أي بحنث يمين نويتم اليمين الحقيقية حين إجرائها ((وَاللّهُ غَفُورٌ)) يغفر الذنب ((حَلِيمٌ)) يحلم عن العصاة لعلهم يتوبوا، وتكرار كلمة غفور في كثير من الآيات لفتح باب التوبة أمام العصاة الذين هم كثيراً ما يعصون عن شهوة ونزوات وهوى، فإن الله سبحانه لا يسدّ عليهم باب التوبة وإن تكررت منهم المعاصي والذنوب ....