تابع نفسير سورة ال عمران ...
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] .. (180)وحيث تقدّم الكلام حول الجهاد والتضحية عقّبه سبحانه بذكر المال فهما يُذكران غالباً مقترنين إذ الجهاد يحتاج الى بذل المال، والدين إنما يُقام ببذل النفس وبذل المال معاً، فقال سبحانه ((وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ))، أي أعطاهم سبحانه فضلاً وإحساناً فإن المال وإن إجتهد الإنسان وكدّ في تعبه إنما هو فضل من الله سبحانه لأنه من خلقه وصنعه فالنقدان مثلاً معدنان مخلوقان له وسائر الأموال من نبات الأرض وما أشبه كله له هذا بالإضافة الى أن أجهزة الإنسان التي بها يتمكن من كسب المال كلها منه سبحانه، والمراد بالبخل هنا هو الحرام منه مما يجب إعطائه فيمتنع ((هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ)) حيث يزعمون أن البخل يوفّر عليهم المال فيبقى عندهم ولا يخرج من أيديهم و"خيراً" مفعول "يحسبنّ" ((بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ)) إن ذلك البخل شرّ لهم يعود إليهم في الدنيا بالشر حيث أن ذلك موجب لسوء السمعة الذي بدوره يوجب عدم التمكن من إكتساب المزيد من المال ويوجب ذهاب الكائن منه بمصاردات الحكّام وثروات الفقراء والأسوء من ذلك أنهم ((سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ))، أي يجعل المال الذي بخل به طوقاً في عنقه ((يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) وهذا كناية عن لزومه تبعة المال، كما يُقال المرأة في عنق الإنسان، والدَين طوق في عنق المدين، وهكذا، وفي الأحاديث الواردة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة (عليهم السلام) أنه ما من أحد يمنع من زكات ماله شيئاً إلا جعل الله ذلك يوم القيامة ثعباناً من نار مطوقاً في عنقه ينهش من لحمه حتى يفزع من الحساب، وفي بعضها تفسير الآية الكريمة بذلك،..، ثم ما بال هؤلاء يبخلون؟ فإنه لا يبقى المال عندهم الى الأبد، بل يذهبون ويذرون المال ((وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)) فكل من يموت فيهما ويخلف شيئاً فلابد وأن يرثه الله سبحانه حيث تبقى الأموال له وحده بعد فناء الجميع فما بخله عنه سبحانه ولم يصرفه في سبيله لابد وأن يرجع إليه، وليس احتقب إلا الإثم ((وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)) فما أنفقتم من نفقة يعلمها الله سبحانه فيجازيكم عليه جزاءً حسناً .....
( 181) وقد كان من بخلاء اليهود من لا ينفق مما آتاه الله، ثم يزيد على ذلك فيقول أن الله فقير لأنه يستقرض كما قال سبحانه "من ذا الذي يقرض الله" وأنا غني لما لديّ من الأموال ((لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء)) ويكفيه تهديداً أن الله سمع قوله فلينتظر الجزاء العادل والعقاب الأليم ((سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ)) حتى يكون كتاباً مسجلاً عليهم لا مجال لإنكاره يوم يُعطى كل إمرء كتابه، وقد كان منطق اليهود منحرفاً الى أبعد الحدود وكيف يكون الله سبحانه فقيراً وهو الذي يملك كل شيء حتى روح هذا القائل، وإنما إستقراضه إمتحان وطلبه المال إبتلائ وإختبار، وكيف يكون هو غنياً والحال أنه لا يملك روحه فكيف بماله ((وَ)) سنكتب ((قَتْلَهُمُ))، أي قتل هؤلاء اليهود ((الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ)) وإنما عيّرهم الله سبحانه مع أن آبائهم هم الذين فعلوا لرضاهم بذلك أولاً ولبيان أن هؤلاء خلفاً عن سلف مجرمون فلا عجب أن يقول الخلف كفراً بعدما عمل السلف أفظع من ذلك ثانياً، ودخول السين في "سنكتب" لعله لبيان أن الكتابة لا تثبت إلا بعد أن يموتوا غير مؤمنين بمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإلا فالكتابة لا تضر إذا مُحيت بالإيمان، وهذا يصح بالنسبة الى قولهم، أما بالنسبة الى قتل أسلافهم، وقد كتب قتلهم، فلأن كتابه عاد ذلك على الأخلاف إنما تكون إذا بقوا على الكفر، ولعل العطف على المعنى، أي "وكتبنا قتلهم الأنبياء" من قبيل "نحن بما عندنا وأنت بما عندك راضٍ" وقوله "علفته تبناً وماءاً بارداً" ((وَنَقُولُ)) حين عقابهم في الآخرة ((ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ)) الذي يحرق أجسادكم بفعلكم وقولكم .....
( 182)((ذَلِكَ)) العذاب إنما يكون ((بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ)) من الكفر والعصيان، وإنما عبّر بتقديم الأيدي لأن الإنسان غالباً يقدّم الأشياء بيده، فيكون ذلك من باب التشبيه للمعقول بالمحسوس ((وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ)) فأنتم عبيده خالفتم أوامره فاستحققتم هذا العقاب، و"ظلاّم" ليس لفظ المبالغة على غرار "علاّم" وإنما للنسبة نحو "تمّار" بمعنى ذي تمر ....
( 183) إن الذين قالوا أن الله فقير ونحن أغنياء، والذين قتلوا أنبيائهم، هم الذين لم يؤمنوا بالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بحجّة مكذوبة، فقد قالوا : يامحمد أن عَهِدَ الله إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإن زعمت أن الله بعثك إلينا فجِئنا بالقربان حتى نصدّقك فنزلت الآية ((الَّذِينَ قَالُواْ)) للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والذين في موضع الجر عطفاً على الذين قالوا أن الله فقير ((إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا)) أمَرَنا ووصّانا في الكتب المُنزَلة ((أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ)) بأن لا نصدّق بنبوّته ((حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ))، أي ما يُتقرّب به الى الله سبحانه ((تَأْكُلُهُ النَّارُ)) تأتي نار من الغيب فتحرقه، وقد كان ذلك علامة لصدق نبوّة أنبياء بني إسرائيل ((قُلْ)) يارسول الله في جوابهم ((قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ)) الأدلة الواضحة ((وَبِالَّذِي قُلْتُمْ)) من القربان الذي أكلته النار ((فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ)) فإنهم قتلوا زكريا ويحيى وغيرهما ((إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)) في دعواكم أنكم تؤمنون بالرسول إذا جائكم بقربان تأكله النار، وإنما يُنسب فعل الأسلاف الى الأخلاف لأن الطبيعة فيهم واحدة والإتجاه واحد فلا يمكن أن يُقال أن معاصر الرسول لم يكونوا يظهرون الرضا بفعل أسلافهم في قتل الأنبياء .....
(184)((فَإِن كَذَّبُوكَ)) يارسول الله ولم يؤمنوا برسالتك ((فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ)) فلستَ بِدعاً في ذلك ولا يضيق صدرك بتكذيبهم، فإن الناس قد كذّبوا رُسُلاً قبلك والحال أنهم ((جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ)) الأدلة الواضحة ((وَالزُّبُرِ))، أي الصحف التي فيها الأحكام والشرائع ((وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ)) وهو الكتاب الجامع للأحكام والفرق بينهما أن الزُبر صحائف متفرقة فيها أحكام متشتّتة بخلاف الكتاب الذي هو الجامع المتسلسل، كما أنه نزل على الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الأحاديث القدسية والقرآن الحكيم.. وهنا سؤال هو أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لِمَ لَم يأتِ لهم بقربان تأكله النار، والجواب أنهم سألوا ذلك تعنّتاً لا إسترشاداً، وإلا فلقد كان يكفيهم سائر الأدلة، وليس شأن الأنبياء أن يفعلوا فوق اللازم من المعجزة لكل متعنّت ومجادل، وهذا هو السر في ردّ كثير ممن سأل المعجزة ......
( 185) إن عدم الجهاد لخوف الموت، وعدم الإيمان لخوف ذهاب الرئاسة، وعدم الإنفاق لخوف الفقر، مما له عاقبة سيئة هي النار، فكل إنسان يموت وتذهب حياته ورئاسته وماله، فما أجدر أن يفعل ما يسبّب له حُسن العاقبة ((كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ)) تذوقه وتلاقيه ((وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ)) أيها الناس ((أُجُورَكُمْ)) الحسنة أو السيئة ((يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) فهنا عمل ولا حساب وغداً حساب وجزاء ((فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ))، أي بوعِدَ عنها ((وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ)) لأنه سرور وراحة لا إنقطاع لهما ولا تكدّر فيها ((وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)) بلذاتها وشهواتها ((إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)) تسبّب غرور الإنسان وغفلته عن الخير الدائم الباقي فمن الجدير بالإنسان أن يحصّل بحياته ورئاسته وماله تلك الدار الباقية لا أن يغترّ بالدنيا ويعصي الله سبحانه حتى يدخل النار .....
( 186) إن الدنيا دار محنة وابتلاء لا دار راحة وسعادة فاعلموا أيها المسلمون ((لَتُبْلَوُنَّ))، أي تقع عليكم المحن والبلايا بكل تأكيد ((فِي أَمْوَالِكُمْ)) بذهابها ونقصانها ووجوب الإنفاق منها ((وَ)) في ((أَنفُسِكُمْ)) بالأمراض والشدائد والقتل في الجهاد ونحوه ((وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ)) اليهود والنصارى والمجوس ((وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ)) من سائر أقسام الكفار ((أَذًى كَثِيرًا)) سباً وشتماً وتهمة ووقيعة واستهزاء ((وَإِن تَصْبِرُواْ)) في البلايا والأذى ((وَتَتَّقُواْ)) فلا تحملنّكم البليّة والأذيّة على الإبطال عن الدين وعمل المحرّم ((فَإِنَّ ذَلِكَ)) الصبر والتقوى ((مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ))، أي الأمور التي يجب العزم عليها والمضي فيها، وفي الكلام مجاز إذ نسب العزم الذي هو للإنسان الى الأمر، مثل الإصرار الى الأمر في قولك "أصرّت الأمور عليّ" لبيان أن الأمر قد صار عزماً، من شدة لزومه، وفرض وجوبه .....
( 187) ثم يأتي السياق الى ذكر صفة أخرى من أهل الكتاب مناسبة للمقام حيث أنهم يعلمون رسالة الرسول وفي كتبهم موجودة لكنهم بدل أن يؤمنوا ويظهروا ذلك للناس يصرّون على الجدال والعناد ويخفون الكتاب على الناس ((وَ)) اذكر يارسول الله ((إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ)) أخذ عهدهم الأكيد بواسطة الأنبياء ((لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ))، أي تبيّنون الكتاب الذي فيه الأحكام والبشارة برسالة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ((وَلاَ تَكْتُمُونَهُ))، أي لا تخفونه ((فَنَبَذُوهُ))، أي طرحوا الميثاق ((وَرَاء ظُهُورِهِمْ)) كناية عن إهمالهم له وعدم إعتنائهم به كما أن الذي يريد إهمال متاع يلقيه وراء ظهره ((وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً))، أي بدّلوا بأحكام الكتاب رئاسة قليلة في الدنيا وأموالاً قليلة كانوا يتقاضونها من سائر اليهود ((فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)) من الثمن حيث يستحقون بذلك العذاب الدائم .....
( 188) ومن الناس من لا يدخل في عمل الخير مع العاملين، فإذا خسر العاملون ما أرادوا وصفوا أنفسهم بالحصافة والعقل، وإذا ربحوا جعلوا أنفسهم من المؤيِّدين لهم، وتوقّعوا أن يُثنوا ثناء العاملين، إنّ أمثال هؤلاء الذين لا يشتركون فيما يجب الإشتراك فيه، لابد وأن ينالهم العذاب لتركهم الواجب، وغالباً يكونون من المنافقين ومن الذين يقعدون عن الجهاد وعن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهؤلاء ميزة أخرى وهي أنهم يفرحون بما يأتون من الأعمال حقاً كان أو باطلاً، بخلاف المؤمنين الذين إذا عصوا استغفروا وإذا أحسنوا خافوا كما قال سبحانه "والذين يُؤتون ما آتوا وقلوبهم وَجِلة" ((لاَ تَحْسَبَنَّ)) يارسول الله ((الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ)) من الأعمال صالحة كانت أو طالحة ((وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ))، أي يحمدهم الناس ((بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ)) من الأعمال الخيرية ((فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ)) يارسول الله ((بِمَفَازَةٍ)) من الفوز، أي النجاة ((مِّنَ الْعَذَابِ)) فإنهم يُعذَّبون بكل تأكيد لهذه الأفعال والصفات ((وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) مؤلم، وهذه الآية كما تراها عامة، فتفسيرها بالمنافق أو نحوه من باب ذِكر المصداق ....
( 189) أين المفر لهؤلاء من عذاب الله ((وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)) فلا يمكن لأحد الفرار من حكومته ((وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) فلا يفوته ما يريد ويفعل ما يشاء ....
( 190) وهنا ينتهي السياق بأدلة الإيمان وأحوال المؤمنين وأن أعمال الكافرين في إنهيار، مناسبة للجو العام من السورة الذي كان في الإيمان والعقيدة وأحوال المؤمنين والكافرين، ومرتبطة بالآية السابقة "ولله مُلك السماوات" ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ))، أي في إيجادها بما تشتملان عليه من العجائب ومختلف صنوف الخلق والإبداع ((وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)) تعاقبهما ومجيء أحدهما خلف الآخر بكل إتقان وإنتظام ((لآيَاتٍ)) دلالات وبراهين على وجود الله سبحانه بقوله سبحانه ((لِّأُوْلِي الألْبَابِ))، أي أصحاب العقول، فإن كلّ من نظر الى الأثر لابد أن يعقل وجود المؤثِّر، وكلما كان الأثر أتقن وأجمل دلّ على كمال علم المؤثِّر وقدرته وإرادته وغيرها من الصفات الجمالية .....
(191)ثم بيّن صفات أولي الألباب بقوله سبحانه ((الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ)) ذِكراً بالقلب، أي تذكّراً له سبحانه ((قِيَامًا)) جمع قائم ((وَقُعُودًا)) جمع قاعد ((وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ))، أي في حال الإضطجاع، يعني أنهم دائماً في فكر الله سبحانه وذكره سواء كانوا قائمين أو قاعدين أو مضطجعين ((وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)) كيف خُلِقَتا بهذا النحو المتقن المدهش، وكيف جَرَيَتا، وكيف كانتا، وكيف ستكونان، وفي حال التفكّر والدهشة لسان حال هؤلاء يقول ((رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا)) الكون والخلق ((بَاطِلاً)) عبثاً ولغواً، بلا غاية ومقصود ((سُبْحَانَكَ))، أي أنت منزّه عن الباطل واللغو، وهو مفعول لفعل مقدّر، أي نسبّحك سبحانك ((فَقِنَا))، أي احفظنا ((عَذَابَ النَّارِ)) ولعل دخول الفاء في "فقِنا" لبيان أنهم يطلبون ذلك جزاء تصديقهم وإيمانهم وتفكّرهم ....
( 192) ويقولون أيضاً ((رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ)) فضحته وأهلكته ((وَمَا لِلظَّالِمِينَ)) الذين ظلموا أنفسهم في دار الدنيا بالكفر والعصيان ((مِنْ أَنصَارٍ)) ينصرهم من عذاب الله سبحانه ...
( 193)((رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ)) هو الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكل من نادى الناس للإيمان بالله سبحانه، فإنّ أولي الألباب يعترفون لله سبحانه بأنهم استجابوا منادي الإيمان ولم يلووا عن نداء الحق فقد سمعوا المنادي ينادي ((أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ)) ولا تكفروا ولا تُشركوا ((فَآمَنَّا)) بك ياسيدنا ((رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا)) التي صدرت منّا ((وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا)) وربما يُقال بأن الفرق أن الذنوب هي الكبائر لأنها ذات أذناب وتبعات والسيئات هي الصغائر لأنها تُسيء الى الإنسان وإن لم تكن ذات تبعة لأنها مُكفَّرة لمن اجتنب عن الكبائر، وهناك في الفَرق أقوال أُخر، ولعل التكرار للتأكيد إظهاراً لكمال الخوف من الذنوب ((وَتَوَفَّنَا))، أي اقبضنا إليك عند موتنا ((مَعَ الأبْرَارِ)) في جملتهم، والأبرار جمع بِر وهو الذي برّ الله بطاعته إياه ....
( 194)((رَبَّنَا وَآتِنَا))، أي اعطنا ((مَا وَعَدتَّنَا)) من الخير والسعادة في الدنيا ((عَلَى)) لسان ((رُسُلِكَ)) وأنبيائك ((وَلاَ تُخْزِنَا))ن أي لا تفضحنا ((يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) على رؤوس الأشهاد ((إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ)) الذي وعته للمؤمنين بسعادة الدنيا وخير الآخرة .....
( 195)((فَاسْتَجَابَ لَهُمْ))، أي لهؤلاء المؤمنين الذين دعوا بالأدعية السابقة ((رَبُّهُمْ))، أي لبّى دعوتهم وقَبِلَ كلامهم، قائلاً ((أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم)) أيها المؤمنون ((مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى)) فكل المؤمنين محفوظة عمله ليُعطى جزائه ((بَعْضُكُم)) أيها المؤمنون ((مِّن بَعْضٍ)) فكلكم من جنس واحد في نصرة بعضكم لبعض ولستم كالكافرين الذين ليس بعضهم من بعض بل بعضهم يباين بعضاً فلكل فئة منهم لون وصبغة ((فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ)) الى المدينة ((وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ)) أخرجهم المشركون من مكة، والآية عامة لكل مهاجر عن دياره ومُخرَج من بلاده ((وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي)) لأنهم آمنوا وأطاعوا ((وَقَاتَلُواْ)) لأجل الله سبحانه ((وَقُتِلُواْ)) قتلهم الكفار ((لأُكَفِّرَنَّ))، أي أمحونّ ((عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ)) فلا آخذهم بها ((وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ))، أي تحت نخيلها وقصورها -كما تقدّم- ((ثَوَابًا))، أي جزاءاً لهم ((مِّن عِندِ اللّهِ)) على أعمالهم ومشاقّهم في سبيله ((وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ))، أي الجزاء الحسن، وليس كغيره ممن لا يقدر ولا يملك الثواب الحسن .....
( 196) وهنا يتأمل الإنسان كيف يكون الكفار في هذه النعمة والراحة والسياحة والأسفار والثمار، والمسلمون مضطهدين يُخرجون من ديارهم ويُؤذَون، مع أن الله سبحانه ناصرهم وظهيرهم؟، ويأتي الجواب ((لاَ يَغُرَّنَّكَ)) وأصل الغرور إيهام حال السرور فيما الأمر بخلافه، فالمعنى : لا يهومنّك يارسول الله أن الكفار في سرور ((تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ)) فإنّ تقلّبهم لا يعود إليهم بالنفع ....
( 197) فإن ذلك ((مَتَاعٌ قَلِيلٌ))، أي يتمتعون بذلك في زمان قليل ((ثُمَّ مَأْوَاهُمْ)) مصيرهم ((جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ))، أي ساء المستقر لهم تلك .....
( 198)((لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ)) بأن آمنوا وأطاعوا فإنهم وإن كانوا في أذيّة وضغط فعلاً ((لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)) الجارية ((خَالِدِينَ فِيهَا)) أبداً إلا متاع قليل كمتاع الكفار في الدنيا ((نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ)) النُزُل ما يُعدّ للضيف من الكرامة والبر والطعام والشراب ((وَمَا عِندَ اللّهِ)) من الثواب والكرامة ((خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ)) من تقلّب الكفار ....
( 199) ثم يرجع السياق الى أهل الكتاب الذين تقدّم أنهم يكفرون ويمكرون ((وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ)) يصدّق بوحدانيته ويعترف بما يعترف به المؤمنون ((وَ)) بـ ((مَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ)) من القرآن الحكيم ((وَ)) بـ ((مَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ)) بخلاف سائر أهل الكتاب الذين لا يؤمنون بما أُنزل إليهم إذ أنهم يحلّون ويحرّمون ويخالفون كتابهم في أحكامه، في حال كونهم ((خَاشِعِينَ)) خاضعين ((لِلّهِ)) سبحانه فيما أمر ونهى ((لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ))، أي بمقابل آيات الله ودلائله وبراهينه ((ثَمَنًا قَلِيلاً)) كما كان يفعل ذلك رؤساهم الذين كانوا يرتشون ويخفون الكتاب لئلا تزول رئاستهم ((أُوْلَئِكَ)) الذين لهم هذه الصفات الخيّرة من أهل الكتاب ((لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ)) يجازيهم بما فعلوا من الخيرات وآمنوا وصدّقوا ((إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)) فليس أجرهم بعيداً عنهم فإن أمد الدنيا ولو طال قليل ....
(200) وأخيراً يتوجه الخطاب للمؤمنين وتنتهي السورة بهذه العِظة البليغة ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ)) على الإيمان والمكاره ((وَصَابِرُواْ))، أي غالبوا في الصبر، ولعل المراد مصابرة الأعداء فكلما صبر الكفار زاد المؤمنون صبراً على صبر أولئك حتى يغلبوا ويأخذوا المعركة ((وَرَابِطُواْ)) وهو المرابطة في ثغور المسلمين للتطلّع على أحوال الكفار ((وَاتَّقُواْ اللّهَ)) في أعمالكم فلا تأتوا بالمعاصي ((لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ))، أي كي تفوزوا وتنجحوا في الدنيا والآخرة ......
.......... تمت بحمد سورة ال عمران ..... ....