تابع تفسير سورة النساء ....
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] .... (79)وحيث تبيّن أن مصدر الخير والشر هو الله سبحانه يبقى سؤال أن الشر ما يكون سببه، ولماذا يبتلي الله تعالى الإنسان بالشر والحال أنه سبحانه لا يريد بعباده إلا الخير؟ ويأتي الجواب ((مَّا أَصَابَكَ )) أيها الإنسان ((مِنْ حَسَنَةٍ )) كالزرع والرخص والصحة والغنى ((فَمِنَ اللّهِ )) أنه يتفضّل عليك بلا سبب وإن كان قسم منها أيضاً بسبب الأعمال الصالحة ((وَمَا أَصَابَكَ )) أيها الإنسان ((مِن سَيِّئَةٍ )) قحط وغلاء ومرض وما أشبه ((فَمِن نَّفْسِكَ )) فإنّ أعمالك الشريرة هي التي سبّبت إبتلائك بالسيئات والمصائب ((وَأَرْسَلْنَاكَ )) يارسول الله ((لِلنَّاسِ رَسُولاً )) فمهمتك تخص في التليغ ولا يرتبط وجودك بالمصائب والآفات -كما يزعم هؤلاء- بل العكس إنك منبع الخير ومبعث الهداية والصلاح ((وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا))، أي يكفي كون الله شاهداً على رسالتك وأنك لا ترتبط بالشرور، لا يُقال كيف يمكن إثبات أن الله يشهد على رسالته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والحال أن أحداً لم يسمع من الله ذلك لأنّا نقول الشهادة التكوينية بإجراء المعجزة على يديه الكريمتين من أكبر أقسام الشهادة.
( 80)((مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ )) في أوامره وزواجره التي منها أمره بالجهاد -كما سبق في بعض الآيات- ((فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ )) لأن أمر الرسول هو أمر الله سبحانه (ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) ((وَمَن تَوَلَّى )) وأعرض عن أوامر الرسول فلا يهمّك ذلك يارسول الله ولا تذهب نفسك عليهم حسرات ((فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا)) تحفظهم عن المخالفة والتولّي كما قال تعالى في آية أخرى (فذكّر إنما أنت مذكّر لست عليهم بمسيطر).
( 81) ثم حكى سبحانه حال المنافقين الذين تقدّم بعض أحوالهم من أنهم يُبطئنّ عن الجهاد ويقولون "لولا أخّرتنا الى أجل قريب" وما أصابتهم من سيئة يطّيّروا بالرسول ((وَيَقُولُونَ )) هؤلاء أمرك ((طَاعَةٌ )) إنّا مستعدون لتنفيذه ومستسلمون له ((فَإِذَا بَرَزُواْ ))، أي خرجوا ((مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ ))، أي قدّر ليلاً ((طَآئِفَةٌ ))، أي جماعة ((مِّنْهُمْ ))، أي من هؤلاء المنافقين ((غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ )) فيتشاورون بينهم بالليل ليخالفوك وينقضوا أمرك ((وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ))، أي ما يتواطئون عليه ليلاً من نقض أمرك فيجازيهم على المخالفة والعصيان ((فَأَعْرِضْ )) يارسول الله ((عَنْهُمْ )) فلا تؤاخذهم بأعمالهم حتى تنشق صفوف المسلمين فإنهم إن أظهرتَ خباياهم شقّوا الصفوف وخالفوا علينا ((وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ )) فهو الذي ينصرك ويُعينك في جهاد الأعداء ((وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً)) فمن وكل إليه سبحانه أمره أنجزه أحسن إنجاز وأكمله أحسن إكمال.
( 82) فهل يظن هؤلاء العصاة الذين يخالفون الرسول ويبيّتون غير ما يقول أن الرسول يأمر وينهى عن نفسه دون أن يكون كلامه من الوحي، وأن القرآن من كلامه لا من كلام الله سبحانه، ولذا يسهل مخالفته، فإن كان هذا ظنّهم فهو خطأ محض إذ القرآن الذي يقرأه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنما هو من عند الله لا من كلام الرسول ((أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ )) تدبّراً عميقاً حتى يعرفوا أنه فوق كلام البشر ولا يمكن للبشر أن يأتي بمثله ((وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ)) حتى لو كان من عند الرسول -على عظمته- ((لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا)) لأن البشر مهما أوتي من الموهبة لابد وأن تختلف تعبيراته وتتفاوت أفكاره حسب الأزمان والظروف، فعدم الإختلاف في القرآن من جهة من الجهات أدلّ دليل على أنه ليس من كلام البشر وإنما هو من عند إله حكيم.
( 83) ويعود السياق الى حالة هؤلاء المنافقين الذين تقدّمت بعض صفاتهم فقال سبحانه ((وَإِذَا جَاءهُمْ ))، أي جاء هؤلاء ((أَمْرٌ ))، أي شيء ((مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ )) من ظهور المؤمنين على عددهم الموجب للأمن أو إنهزام المسلمين الموجب للخوف ونحو ذلك من كل شيء يوجب أمناً أو خوفاً ((أَذَاعُواْ بِهِ ))، أي أفشوه في الأوساط فقد كانت الأخبار المختلفة تُذاع وتُنشر في المدينة لغرض الدعاية للمسلمين أو عليهم فكان هؤلاء الضعاف الإيمان يتلقفونها فوراً ويأخذون في إشاعتها من دون نظر الى عاقبة الأمر والى أن الخبر هل هو صحيح أم لا، ومن الأمور الضرورية بالنسبة الى الحركات أن تكون أخبارها طي الدرس للقادة ليروا هل من الصلاح إشاعتها أم لا إذ كثيراً ما يكون الخبر مكذوباً وكثيراً ما يكون إشاعة الخبر المؤمّن ضد المصلحة -ولو كان صادقاً- حينما يقتضي الحال الحذر والإستعداد، وكثيراً ما يكون إشاعة الخبر المخوّف ضد الصلاح -ولو كان صادقاً- حينما يقتضي الحال التأمين لئلا يجبن الناس عن الإستعداد والحركة ((وَلَوْ رَدُّوهُ ))، أي أرجعوا ذلك الخبر الذي سمعوه ((إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ )) والمراد به الأئمة عليهم الصلاة والسلام والذين هم معنيون من قِبَل الرسول والأئمة، فإنه لا أولي الأمر إلا هؤلاء كما تقدّم ذلك ((لَعَلِمَهُ ))، أي لعَلِم ذلك الأمر صدقه وكذبه وكون الصلاح في نشره أو كتمانه ((الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ ))، أي يستخرجونه ((مِنْهُمْ ))، أي من أولي الأمر فلا يبقى الخبر مردداً بين الصدق والكذب ولا بين الصلاح في إشاعته وعدمه ولم يكن محل للظنون والأوهام ولم يرج -بعد- الأكاذيب لأنها تحت الرقابة ولم يقل "لعلموه" للإشارة الى علّة علمهم وأنهم بسبب إستنباطهم يعلمونه ((وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ )) أيها المسلمون، حيث يرشدكم الى مواقع الزلّة ومهاوي الخطأ ((لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ )) في ما يُلقيه عليكم من ما يوجب بلبلة صفوفكم وإنشطار كلمتكم ((إِلاَّ قَلِيلاً)) من الذين قويت عقولهم فلا يتّبعون خطوات الشيطان حتى إذا لم يكن رسول كما كان كذلك في زمن الجاهلية حيث أن بعضهم لم يكن يتّبع الشيطان بما أوتي من قوة العقل وسداد الرأي، فليس المراد -لولا فضل الله إطلاقاً- بل المراد الفضل الخاص.
( 84) وعندما بيّن القرآن سلوك القوم في الجهاد وأن الله هو الذي يتفضّل على المؤمنين، يتوجّه السياق الى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قائلاً ((فَقَاتِلْ )) يارسول الله ((فِي سَبِيلِ اللّهِ )) ولإعلاء كلمته وتنفيذ حكمه ((لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ )) فإنك لا تتضرر بفعل المنافقين وإرجافهم وما يبدو منهم، فإنك لست مكلّفاً بأفعالهم وأعمالهم كما إنك لست مسؤولاً عن المؤمنين إلا بقدر نطاق التبليغ والإرشاد ((وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ))، أي حثّهم على القتال ((عَسَى اللّهُ ))، اي لعل الله ((أَن يَكُفَّ )) ويمنع بسبب قتالك ((بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ))، أي شدة الكفار وقوتهم بأن يغلبك عليهم فيعودوا خائبين ((وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْسًا )) فأنتم بقوة الله وشدته تتقدّمون وهو أشد من الكفار قوة ((وَأَشَدُّ تَنكِيلاً))، أي أشد من حيث العقوبة والنكال.
(85) وحيث تقدّم أن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يكلّف إلا نفسه إستدرك الأمر الى ما توسّط فيه بل ((مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً ))، أي يكون قد شفع صاحبه في الأمور الخيرية ويحصل كون الإنسان شفعاً أما بالتوسّط أو بالتحريض أو بالإرشاد ((يَكُن لَّهُ ))، أي للشفيع ((نَصِيبٌ )) وحصة ((مِّنْهَا ))، أي من تلك الحسنة فإن الدال على الخير كفاعله ((وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً)) بأن توسّط في الأمر السيء أو حرّض أو دلّ على ذلك (( يَكُن لَّهُ ))، أي للشفيع ((كِفْلٌ ))، أي نصيب ((مِّنْهَا )) لأنه قد تعاون على الإثم والعدوان ((وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا))، أي مقتدراً فهو القادر في أن يعطي الشفيع نصيباً من الحسنة أو كِفلاً من السيئة، أو معنى "المُقيت" أي المجازي على الأمرين.
( 86) وقد ناسب الكلام الذي هو حول القتال والجهاد، الكلام حول السلام والكف لتقابل الضدّين بين الأمر، ويأتي الجو عاماً لا يخص بسلام الحرب بل السلام المطلق فقال سبحانه ((وَإِذَا حُيِّيْتُم )) أيها السملمون ((بِتَحِيَّةٍ )) والتحية السلام، يُقال "حي يحيي" إذا سلّم ((فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا ))، أي من تلك التحية، والآية عامة تشمل كل تحية، قال في المجمع : فلما أمر سبحانه بقتال المشركين عقّبه بأن قال مَن مالَ الى السلم وأعطى ذاك من نفسه وحيّ المؤمنين بتحية فأقبلوا منه ((أَوْ رُدُّوهَا )) بمقدارها فإذا قال أحد لك "السلام عليكم" فالرد الأحسن أن تقول "السلام عليكم ورحمة الله" والرد المساوي أن تقول "السلام عليكم" ((إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا))، أي حفيظاً حسيباً فيحسب ردّكم إن كان بالأحسن أو بالمساوي ليُجازيكم عليه.
( 87)((اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ )) فهو المالك المطلق ذو الصفات الكمالية ((لَيَجْمَعَنَّكُمْ )) ببعثكم بعد الممات ويحشرنكم ((إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ))، أي الى موقف الحساب ليجازيكم بأعمالكم فما عملتم في دنياكم من حرب وسلم أو غيرهما لابد وأن تُجازون عليه هنالك ((لاَ رَيْبَ فِيهِ ))، أي ليس محلاً للريب وإن إرتاب فيه المبطلون أو أنه بالنظر الى الواقع ليس فيه ريب وشك فهو أمر واقع لا محالة ((وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا)) فحديثه صادق لا خلف فيه، وليأتيّنكم يوم القيامة وتُجازون بما عملتم في الدنيا.
( 88) ثم يرتد السياق الى الجهاد وما يتخلله من الإختلاف والإنشقاق، ويذكر الله سبحانه المؤمنين بأنه لا ينبغي لهم أن يختلفوا في جهاد الكفار والمنافقين لأعذار واهية فقال سبحانه ((فَمَا لَكُمْ)) أيها المسلمون صرتم ((فِي )) أمر ((الْمُنَافِقِينَ )) ((فِئَتَيْنِ )) فئة تؤيد محاربتهم لأنهم كفار واقعاً وفئة لا تؤيد لأنهم أظهروا الإسلام في يوم ما ((وَ)) الحال أن ((اللّهُ أَرْكَسَهُم ))، أي ردّهم الى حكم الكفر ((بِمَا كَسَبُواْ ))، أي بسبب كسبهم للنفاق والشقاق ((أَتُرِيدُونَ ))، أي هل تريدون أيها المسلمون ((أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ ))، أي أتطمعون في هداية هؤلاء المرتدّين وقد أضلّهم الله، وقد تقدّم أن معنى إضلال الله تركهم وضلالهم بعد أن عرفوا الحق فأعرضوا عنه ((وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ )) فيتركه على كفره وضلاله ((فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً)) لإنقاذه، وكيف يمكن إنقاذه وهو معاند يتعامى عن الحق عمداً، وقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أن هذه الآية نزلت في قوم قدموا المدينة من مكة فأظهروا للمسلمين الإسلام ثم رجعوا الى مكة لأنهم استوخوا المدينة فأظهروا الشرك ثم سافروا ببضائع المشركين الى اليمامة فأراد المسلمون أن يغزوهم فاختلفوا فقال بعضهم لا نفعل فإنهم مؤمنون وقال آخرون إنهم مشركون فأنزل الله فيهم هذه الآية، وهذا عام دائماً في كثير من الحركات فإن قسماً من الذين يؤمنون لابد وأن ينقلبوا ثم يختلف فيهم الباقون، هل إنهم خارجون حقيقة أم لا، والآية تبيّن وجوب وحدة الصف أمام هؤلاء بعدما ظهر منهم الإرتداد ثم لا يخفى أن تعبير الآية بالمنافقين لا يدل على أنهم لم يكفروا إذ النفاق أعم من الكفر، ومن المحتمل أن تريد الآية بيان وجوب وحدة الصف أمام المنافقين حتى يكون التجنّب عنهم عامّاً وليقرّوا بالعزلة، وهذا أقرب الى ظاهر الآية بمناسبة ما سبق من أحكام المنافقين كما أن صريح الرواية وظاهر الآية اللاحقة "ودّوا لو تكفرون .." يدل على المعنى الأول وأنه أُريد بالنفاق الكفر.
( 89)((وَدُّواْ ))، أي أحبّ هؤلاء المنافقين الذين إرتدّوا عن الإسلام وأظهروا الشرك ((لَوْ تَكْفُرُونَ )) أنتم أيها المسلمون ((كَمَا كَفَرُواْ )) هم ((فَتَكُونُونَ سَوَاء )) في الكفر ومثل هؤلاء لا ينبغي أن ينقسم المسلمون بالنسبة إليهم قسمين ((فَلاَ تَتَّخِذُواْ )) أيها المسلمون ((مِنْهُمْ أَوْلِيَاء )) أحباء وأخلاء، فإن المسلم لا يصادق الكافر كما قال سبحانه (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله) ((حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ )) من دار الكفر الى دار الإسلام ((فِي سَبِيلِ اللّهِ)) وذلك يلازم الإيمان إذ الهجرة لا تكون إلا بعد الإيمان ((فَإِن تَوَلَّوْاْ )) وأعرضوا عن الإيمان الملازم للهجرة ((فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ ))، أي أين أصبتموهم من حل أو حرم، ولا إشكال في محاربة الجاني في الحرم، أو المراد أين كانوا من الأرض ((وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا ))، أي صديقاً خليلاً ((وَلاَ نَصِيرًا))، أي ناصراً ينصركم على أعدائكم، فإن الكافر لا ينصر المسلم ولو نصره في الظاهر فإنه لا يؤمن شره.
( 90) ثم إستثنى سبحانه عن وجوب مقاتلة هؤلاء من كان داخلاً في حلف قوم بين ذلك القوم وبين المسلمين معاهدة فإن دخوله في ذلك الحلف يحقن دمه، ومن لا يريد محاربة المسلمين وإنما يريد معاهدتهم فقال سبحانه -مستثنياً من قوله فخذوهم الآية- ((إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ))، أي لهم مواصلة وأحلاف مع قوم ((بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم ))، أي بين ذلك القوم ((مِّيثَاقٌ ))، وفي الحديث أن هلال بن عويمر السلمي واثق من الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن لا يتعرّض هو لأحد أتاه من المسلمين ولا يتعرّض الرسول لمن أتى هلال بن عويمر فأنزل الله هذه الآية ناهياً أن يُمسّ من يأتي هلال من الكفار بسوء ((أَوْ )) الذين ((جَآؤُوكُمْ ))، أي أتوا إليكم أيها المسلمون ((حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ))، أي ضاقت صدورهم، والسبب أن من يهمه أمر تنتفخ رئته لتجلب أكبر قدر ممكن من الهواء ليرفّه على القلب الذي حمى بواسطة غليان الدم فيضيق الصدر لتوسّع الرئة ((أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ ))، أي يضيق صدورهم من قتالكم وقتال قومهم فلا يكونون لكم ولا عليكم، في المجمع قال : إنما عنى به "أشجع" فإنهم قدموا المدينة في سبعمائة يقودهم مسعود بن دخيلة فأخرج إليهم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أحمال التمر ضيافة، وقال : نعم الشيء الهدية أمام الحاجة، وقال لهم : ما جاء بكم؟ قالوا : لقرب دارنا منك وكرهنا حربك وحرب قومنا -يعنون بني حمزة الذين بينهم وبينهم عهد- لقلّتنا فيهم فجئنا لنوادعك، فقَبِلَ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذلك منهم ووادعهم فرجعوا الى بلادهم ((وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ ))، أي سلّط هؤلاء الكفار ((عَلَيْكُمْ )) بأن لم يُلقِ في قلوبهم رعبكم أيها المسلمون حتى يخافوكم فيسالموكم، فقد كان هذا من فضل الله سبحانه أن يجعلكم محل هيبة ومِنعة، مع أن عددكم وعُددكم لا يقتضيان ذلك ولو لم يلطف بكم ((فَلَقَاتَلُوكُمْ )) لكن حيث أنعم الله عليكم بذلك فلا تمدّوا إليهم يد المحاربة ((فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ )) هؤلاء الذين ذُكروا وهم "الذين يصلون" "وجاؤوكم" ((فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ )) أيها المسلمون ((السَّلَمَ )) يعني صالحوكم واستسلموا لكم ((فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً)) فلا تُباح نفوسهم ولا أموالهم ولا أعراضهم، وما في بعض التفاسير من أن الآية منسوخة لم يظهر وجهه، إذ الجملة الأولى لا تقبل النسخ فإن المعاهدات تبقى الى أمدها، والجملة الثانية في مورد خاص ومثله لا يقبل النسخ.
(91)((سَتَجِدُونَ )) أيها المسلمون جماعة ((آخَرِينَ )) من يبطن الكفر ويُظهر الإسلام ((يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ ))، أي يأمنوا من طرفكم ((وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ ))، أي يأمنوا من طرف قومهم الكافرين، وهؤلاء ((كُلَّ مَا )) أتوكم أظهروا الإسلام وإذا ((رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ )) بأن رجعوا الى قومهم ودعوهم الى الكفر -وهو المراد بالفتنة هنا- ((أُرْكِسُواْ فِيِهَا ))، أي وقعوا فيها وارتدوا عن إسلامهم والإسلام لا يعترف بهكذا أُناس فإنّ مثلهم خطرون على سلامة المسلمين فلابد وأن يحدد هؤلاء موقفهم أما أن يعلنوا سلمهم العام واعتزالهم -حيادياً- عن المشاركة في التحركات ضد المسلمين ولا يشتركوا في حرب عليهم فهم في أمان من جانب الدولة الإسلامية وأما أن يحاربهم المسلمون كسائر الكفار لا فضل لهم ولا حُرمة ((فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ ))، أي لم يعتزل هؤلاء الكفار عن المؤمنين ((وَ)) لم ((يُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ )) بأن يسالموكم ويصالحوكم ((وَ)) لم ((يَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ )) بأن لا يشاركوا في حرب أو تحرك ضدكم ((فَخُذُوهُمْ ))، أي أسروهم ولا ترعوا نفاقهم في إظهار الإسلام إذا جائوكم ((وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ ))، أي أين وجدتموهم ((وَأُوْلَئِكُمْ ))، أي هؤلاء المذبذبون ((جَعَلْنَا لَكُمْ )) أيها المسلمون ((عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا))، أي برهاناً واضحاً، فإنه لا واسطة بين الحرب والحياد فإن أخذوا جانب الحياد فهو وإلا فالحرب حالهم حال سائر الكفار، ومن المحتمل أن لا يكون المراد من "يأمنوكم" إظهارهم الإسلام بل إظهارهم الموادعة والمسالمة، وسوق الآية الى آخرها -على هذا المعنى واضح- وهذا هو الذي يؤيده ما في بعض التفاسير من أن الآية نزلت في عينيه بن حصين الغزاري أجدبت بلادهم فجاء الى رسول الله ووادعه على أن يقيم ببطن نخل ولا يتعرّض له وكان منافقاً ملعوناً وهو الذي سماه رسول الله "الأحمق المطاع" وعلى هذا يكون الفرق بينه وبين ما تقدّم في قوله سبحانه "أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم" أن الأولين جائوا بحسن نيّة وصدق طويّة بخلاف هؤلاء حيث جاءوا نفاقاً فقَبِلَ من أولئك دون هؤلاء.
( 92) هذا كان حول معارك المسلمين مع غير المسلمين، وحكم إراقة الدماء بالنسبة الى الطرفين، أما المسلمون بعضهم مع بعض فلا يحق لأحد أن يريق قطرة دم أحد ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا )) الإستثناء منقطع، أي لا يجوز لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا أن يخطأ في قتله كما لو أراد قتل حيوان فأخطأ وأصاب الرمي مؤمناً أو نحو ذلك ((وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَـ)) عليه أن يكفّر بـ ((تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ))، أي أن يعتق إنساناً عبداً مؤمناً، ويُقال للعبد "رَقَبة" بعلاقة الجزء والكل، باب إستعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل، كما يقال للجاسوس "عين" ((وَ)) عليه ((دِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ )) الدِيّة من ودي يدوِ، أي عطى المال المقابل للدم ويجب أن تكون مسلّمة أي يسلّمها الى أهل المقتول كاملة غير منقوصة، والمراد بكون الديّة عليه وجوب الديّة في الجملة لا أنها عليه بالذات فإنها في الخطأ على العاقلة وهذه الديّة تقسم بين أولياء المقتول ((إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ ))، أي يتصدّق أولياء المقتول بالديّة على القاتل فلم يأخذوها منه، ولا يخفى أن أصل "يصّدّقوا" يتصدّقوا فادغمت التاء في الصاد لقرب مخرجهما على ما هو المعروف في باب التفعّل ((فَإِن كَانَ )) المقتول ((مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ ))، أي كان من طائفة هم أعداء للمسلمين بأن كانوا كفاراً محاربين ((وَهُوَ ))، أي القتيل ((مْؤْمِنٌ )) وكان قتله له خطأ -كما يقتضيه العطف على الجملة الأولى- ((فَـ)) على قاتله كفّارة هي ((تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ )) أما الديّة فلا تجب إذ ليس للمقتول أهل مسلمون ومن المعلوم أن الحربي لا يرث المسلم ((وَإِن كَانَ )) المقتول كافراً ليس بمسلم ولكنه كان ((مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ )) ومعاهدة وقتله المسلم خطأ ((فَـ)) على القاتل ((دِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ ))، أي أهل المقتول ((وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً)) وذلك لأنه لا يجوز قتل المعاهدة كما لا يجوز قتل المؤمن (( فَمَن لَّمْ يَجِدْ )) العبد ولا ثمنه ((فَـ)) عليه ((صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ))، أي متواليين فلا يصح التفريق في أيام الشهرين، لكن إذا صام شهراً ويوماً كفاه في التتابع وجاز أن يصوم البقية بعد زمان غير متصل بالأول ((تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ ))، أي شرع ذلك في القتل لأجل التوبة والرجوع من الله سبحانه على العبد القاتل، والقاتل وإن كان مخطأ مما يوجب عدم الذنب عليه إلا إن بُعده الطبيعي بسبب هذا العمل القبيح فإنّ بعض الأعمال لها آثار وضعية كمن شرب الخمر جهلاً فإنه يسكر وتصيبه الأمراض الملازمة للخمر ((وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا )) يعلم مصالحكم ((حَكِيمًا)) فيما يأمر وينهي.
( 93) قد تقدّم حُكم قتل الخطأ ((وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا )) ظاهر الآية أن القتل وقع عمداً مقابل قتل الخطأ ((فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا )) أبد الآبدين، وإلا أن تدركه شفاعة أو عفو، وهذا الإستثناء بدليل قوله تعالى (إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ((وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ )) والمراد في مثل هذه الصفات نتائجها، وإلا فالله سبحانه ليس محلاً للحوادث ((وَلَعَنَهُ))، أي طرده عن رحمته (( وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)) وفي آية أخرى (ومن قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا).
( 94) ثم أشار القرآن الحكيم الى بعض الإحتياطات اللازمة على المجاهدين لئلا يقتلوا مسلماً خطأ، وذلك إثر وقوع حادثة وهي أن أسامة بن زيد وأصحابه بعثهم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في سريّة فلَقوا رجلاً قد انحاز بغنم له الى الجبل وكان قد أسلم فقال لهم : السلام عليكم لا إله إلا الله محمد رسول الله، فَبَدَرَ إليه أسامة فقتله واستاقوا غَنَمَه فلما رجع الى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أخبره بذلك فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : "أفلا شققتَ الغطاء عن قلبه لا ما قال بلسانه قبلت ولا ما في نفسه علمت" ونزلت الآية ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ))، أي خرجتم للجهاد في سبيل إعلاء كلمة الإسلام فإن الضرب بمعنى السفر لأن المسافر يضرب برجله الأرض ((فَتَبَيَّنُواْ ))، أي ميّزوا بين الكافر والمؤمن ليكون أمركم واضحاً مبيناً ولا تفعلوا شيئاً بدون التثبّت والتبيّن والتّأني ((وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ ))، أي حيّاكم بتحية الإسلام وأظهر لكم أنه مسلم واعتزلكم فلم يقاتلكم ((لَسْتَ مُؤْمِنًا )) حقيقة وإنما إيمانك صرف لقلقة لسان خوفاً من القتل ((تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ))، أي هل تطلبون الغنيمة والمال؟، حيث تنكرون إسلام مَن ألقى إليكم السلام فيكون الكلام على الإستفهام التوبيخي، أي لماذا تقتلون مُظهِر الإسلام لغنيمته الزائلة التي هي عرض الحياة الدنيا، أو إن الإستفهام ليس توبيخياً بل على ظاهره، أي إن كنتم تطلبون المال ((فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ)) جمع مغنم وهي الغنيمة ومغانمه في الدنيا بما ستحوزونه من الكفار وفي الآخرة، وقد فُسّرت الغنيمة في اللغة بأنها الفائدة ((كَذَلِكَ )) الذي ألقى إليكم السلام ((كُنتُم مِّن قَبْلُ )) فإنكم كنتم كفاراً كما كان هو كذلك ((فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ )) بأن هداكم للإيمان فكما لم يصح لأحد أن يقول أن إيمانكم عن خوف كذلك لم يصح لكم أن تقولوا أن إيمان من ألقى إليكم السلام عن خوف، وإذا علمتم خطأكم في هذه المرة ((فَتَبَيَّنُواْ )) من بعد، وقد كرّر اللفظ تأكيداً، ولأنه يقع الكلام موقع القبول بعد قيام الحجّة، فكان "تبيّنوا" في الأول مجرد أمر و"تبيّنوا" هنا بعد الدليل والبرهان على لزوم التبيّن عقلاً ((إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)) فهو يعلم أعمالكم وبواعثها فراقبوا الله في كل عمل تقومون به.
(95)ثم يأتي السياق ليبيّن فضل المجاهدين تحريضاً على الجهاد وتحفيزاً للقاعدين على النهوض ((لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )) الذين يقعدون في محلهم ولا ينهضون لمقاتلة الأعداء ((غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ )) يعني القاعدين الذين ليس بهم ضرر يمنعهم عن الجهاد كالأعمى والأعرج ونحوهما، أما مَن بهم ضرر فهم معذورون ليس عليهم حرج، ولعل المفهوم من الآية أن من به ضرر إذا كانت نفسيته بحيث كان يجاهد لولا الضرر كان له أجر المجاهدين حسب الحديث المأثور (نيّة المؤمن خير من عمله) ((وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ )) بأن أنفقوا أموالهم للجهاد وقدّموا أنفسهم للقاء الكفار في سبيل إعلاء كلمة الإسلام، وسُمّي الجهاد جهاد لما يستلزمه من الجهد والمشقة، فإن في بذل المال والنفس أعظم المشقّات ((فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً )) إذ المجاهد يفضل على القاعد بالجهاد بعد أن كلاً منهما له فضل بالإيمان والصلاة والصيام وسائر شرائع الإسلام ((وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى ))، أي المجاهد والقاعد، فإن الجهاد فرض كفاية فإذا قام به البعض سقط عن الآخرين ولذا فكلاهما موعود له بالصفة الحسنى من الخير والسعادة وإن كان المجاهد أفضل، في تفسير الأصفى ورد : لقد خلفتم في المدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم وهم الذين صحّت نيّاتهم ونضجت جيوبهم وهوت أفئدتهم الى الجهاد وقد منعهم من المسير ضرر أو غير ضرر، أقول : هذا كان في غزوة تبوك ((وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا)) فقد ورد أن فوق كل برّ بِر إلا الجهاد في سبيل الله، كما ورد أن الأجر بقدر المشقّة، وورد : ما أعمال البر كلها بالنسبة الى الجهاد إلا كنفثة في بحر لجّي، وكان قوله "وفضّل" لدفع وهم ربما يتوهّم من قوله "درجة" فيُقال أنه لا أهمية للدرجة في مقابل تعب الجهاد ومشقته.
( 96) ثم بيّن سبحانه الأجر العظيم بقوله ذلك الأجر هو ((دَرَجَاتٍ مِّنْهُ ))، أي من قِبَل الله سبحانه، وهذا تعظيم للأمر فإن الدرجة لو كانت من غيره لكانت هيّنة إذ الدنيا عرض زائل أما التي منه سبحانه فإنه شيء عظيم باق، بين كل درجتين مسيرة سبعين خريفاً للفرس الجواد المضمر ((وَمَغْفِرَةً ))، أي غفراناً لذنوب المجاهد ((وَرَحْمَةً ))، أي يرحم الله المجاهد بإعطائه النعم الكثيرة ((وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)) فيغفر للمجاهد ذنوبه السابقة ويرحمه برحمته الواسعة، قال بعض أن المراد بالدرجة الأولى علوّ المنزلة كما يُقال فلان أعلى درجة عند الخليفة من فلان، وأراد بالثانية الدرجات في الجنة التي بها يتفاضل المؤمنون.
( 97) ثم يأتي السياق الى طائفة أخرى من القاعدين الذين لم يعدهم الله الحسنى، بل وَعَدَهم العذاب لأنهم هم السبب في ظلم الكفار لهم وهضمهم حقوقهم ((إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ))، أي تقبض الملائكة أرواحهم، فإن لملك الموت أعواناً كما ورد في السُنّة ودلّت عليه هذه الآية ((ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ))، أي في حال كونهم ظالمين لأنفسهم لأنهم بقوا في دار الهوان حيث يسومهم الكفار العذاب ويمنعونهم من الإيمان بالله والرسول، وقد كان بإمكان هؤلاء أن يهاجروا الى دار الإيمان ويؤمنوا، ولعل الآية أعم منهم ومن المؤمنين الذين بقوا في دار الكفر ولا يتمكنون من إظهار واجبات الإسلام والعمل بما أوجبه الله سبحانه ((قَالُواْ ))، أي قالت الملائكة لهم عند قبض أرواحهم ((فِيمَ كُنتُمْ ))، أي في أيّ شيء كنتم من أمر دينكم، وهو إستفهام تقريري توبيخي ((قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ )) ليستضعفنا أهل الشرك في بلادنا فلا يتركوننا لأن نؤمن، أو لا يتركوننا لأن نعمل بالإسلام ((قَالْوَاْ ))، أي قالت الملائكة لهم ((أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا )) حتى تخرجوا من سلطنة الكفار وتتمكنوا من الإسلام أو من العمل بشرائعه ((فَأُوْلَئِكَ )) الذين سبق وصفهم ((مَأْوَاهُمْ )) الى مرجعهم ومحلهم ((جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا))، أي إنها مصير سيء لعذابها وأهوالها.
( 98) ثم استثنى سبحانه من هؤلاء مَن لا يتمكن من المهاجرة فإنه ليس مكلّفاً وإنما أمره الى الله تعالى ((إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ )) الذين إستضعفهم الكفار في بلادهم ((مِنَ الرِّجَالِ )) العجزة ((وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ )) وهاتان الطائفتان في طبيعتهم العجز عن الفرار والهجرة ((لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ))، أي علاجاً لأمرهم وفكّاً لأنفسهم عن سُلطة المشركين ((وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً)) للفرار والهجرة.
( 99)((فَأُوْلَئِكَ )) العاجزون من المستضعفين ((عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ ))، أي لعل الله سبحانه يغفر لهم ذنبهم، ودخول "عسى" في مثل هذه الآية للدلالة على كون الأمر بيد الله سبحانه وأنه كان قادراً أن يأمرهم بما يحرجهم من وجوب خروجهم وإظهار دينهم وإن بلغ الأمر ما بلغ ولا يُقال إن كان المراد بالمستضعفين الكفار فكيف يُعفى عن الكفر؟ لأن الدليل العقلي والنقلي قد دلّ على إمتحان الضعفاء والعجزة والبَلَه ومن إليهم في الآخرة، وذلك بخلاف الكافر المعاند الذي مصيره النار حتماً ((وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا )) يعفوا عمن يشاء ((غَفُورًا)) يغفر الذنوب، ولعل الفرق بين العفو والغفران أن العفو غفران بلا ستر والغفران عفو مع الستر فإنّ عدم العقاب لا يلازم الستر.
( 100) وقد يمنع عن الهجرة خوف أن لا يجد الإنسان في محله الجديد ما يلائم مسكنه ومكسبه، ولكنه ليس إلا توهّماً فإن الأرض واسعة والكسب ممكن في كل مكان ((وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ)) لأمره سبحانه ومن أجله ((يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا )) المراغم مصدر بمعنى المتحول وأصله من الرغام وهو التراب ((وَسَعَةً ))، أي في الكسب وسائر شؤون الحياة ((وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا )) يهاجر وطنه ومحله ويقطع عنه ((إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ )) والهجرة الى الله بمعنى محل أمره والهجرة الى الرسول أما حقيقي كما في زمان حياته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأما مجازي كما إذا هاجر الى بلاد الإسلام حسب أمر الرسول ((ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ ))، أي يموت في طريقه ((فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ )) لأنه خرج في سبيله وحسب أمره فأجره وثوابه عليه سبحانه ((وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا )) يغفر ذنوب المهاجر ((رَّحِيمًا)) يرحمه بإعطائه الثواب، وفي الحديث : "من فرّ من أرض الى أرض وإن كان شبراً من الأرض إستوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد عليهما السلام"، وقد ورد في بعض التفاسير أن السبب في نزول هذه الآية أنه لما نزلت آيات الهجرة سمعها رجل من المسلمين كان بمكة يسمى "جندب بن حمزة" فقال : والله ما أنا مما استثنى الله أني لأجد قوة وأني لعالم بالطريق، وكان مريضاً شديد المرض فقال لبنيه : والله لا أبيت بمكة حتى أخرج منها فإني أخاف أن أموت فيها، فخرجوا يحملونه على سرير حتى إذا بلغ التنعيم مات فنزلت الآية.
(101) ولما أمر سبحانه بالجهاد والهجرة بيّن كيفية الصلاة في السفر والخوف إشفاقاً على الأمة ورحمة بهم وتفضلاً عليهم، والآية وإن كانت ظاهرة في الخوف فقط لأنه سبحانه قال "إن خِفتم" لكن القيد غالبي في ذلك الزمان عند نزول الآية، وإنما الإعتبار بالضرب في الأرض وقد كثر في القرآن الحكيم مع إن كونهن في حجورهم غير شرط وكقوله (ولا تُكرهوا فتياتكم على البِغاء إن أردتن تحصّناً) وغيرهما ((وَإِذَا ضَرَبْتُمْ ))، أي سافرتم أيها المسلمون ((فِي الأَرْضِ )) ومن المعلوم إشتراط السفر بأمور أُخر مذكورة في الكتب الفقهية ((فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ )) ليس لفظ "ليس عليكم جُناح" للإباحة كما هو ظاهر منه بل في مقام دفع توهّم الحضر كقوله (فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما) فقد كان التمام واجباً، وفي السفر حيث يتوّهم بقائه على الوجوب نفى سبحانه وجةبه وأجاز القصر، وذلك لا ينافي وجوب القصر على ما دلّ الدليل عليه، والمراد بالقصر تنصيف الرباعية بأن يصلّي الظهر والعصر والعشاء ركعتين فإذا تشهّد التشهّد الوسط سلّم ولم يقم للركعتين الباقيتين، أما الصبح والمغرب فتبقيان على ما كانتا عليه ((إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ))، أي خفتم فتنة الذين كفروا والفتنة العذاب والقتل وما أشبه، فإنهم إذا أرادوا الصلاة أربعاً طال الأمد عليهم وأمكن أن يهجمهم الكفار ويعذبوهم أو يقتلوهم فمنّ الله عليهم بالتقصير ليقلّ الأمد ولا يبقى للكفار -في ساحة الحرب- مهلة ينتهزونها للهجوم، ولصلاة السفر والخوف والمطاردة تفصيل مذكور في الكتب الفقهية، ((إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ )) ليس معنى "كان" الماضي بل مجرد الربط في مثل (كان الله عليّا) وما أشبهها ((لَكُمْ )) أيها المسلمون ((عَدُوًّا مُّبِينًا))، أي واضحاً لظهور عداوتهم للمسلمين فإذا لم تقصروا من الصلاة إنتهزوا مدة إشتغالكم بها فرصة لفتنتكم.
( 102) ثم بيّن سبحانه صلاة الخوف إذا أرادوا أن يصلّوها جماعة فإن المجاهدين ينقسمون الى طائفتين : طائفة تقتدي بالإمام وطائفة تبقى في الميدان، فإذا سجد الإمام السجدتين من الركعة الأولى تقوم الطائفة المقتدية للركعة الثانية وتأتي بها فرادى وتتشهّد وتسلّم والإمام بعد لم يركع، فتذهب هذه الطائفة الى الميدان وتأتي الطائفة الثانية وتقتدي بالإمام في الركعة الثانية حتىإذا جلس الإمام للتشهّد قامت وأتت بالركعة الثانية فرادى ولحقت بالإمام في التشهّد وأتمّت الصلاة معه فتطول صلاة الإمام بمقدار صلاتيهما ((وَإِذَا كُنتَ )) يارسول الله ((فِيهِمْ )) فيمن ضرب في الأرض لأجل الجهاد، ومن المعلوم أن الحكم لا يخص الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بل هذا عام لكل إمام في المجاهدين يريدون الصلاة جماعة ((فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ )) ((فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ )) يقتدون بك في الصلاة وتقوم طائفة ثانية من المجاهدين في وجه العدو ((وَلْيَأْخُذُواْ ))، أي الطائفة الذين يصلّون معك ((أَسْلِحَتَهُمْ )) لئلا يستسهل أمرهم العدو فيهجم عليهم ويكونون عُزّلاً فيحرج موقفهم، وقد استثنى من كراهة حمل السلاح في الصلاة هذا الموضع ولم يبيّن أخذ الطائفة المقاتلة إسلحتهم لوضوح ذلك ((فَإِذَا سَجَدُواْ)) وقمت أنت ااركعة الثانية أتمّوا صلاتهم فرادى وذهبوا مكان الطائفة المقاتلة وهذا المراد بقوله سبحانه ((فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ )) وإنما قال بصيغة الجمع ولم يقل "من ورائك" باعتبار صلاة الطائفة الثانية مع الإمام، وهذا لا ينافي قوله بعد ذلك "ولتأتِ طائفة أخرى" إذ المراد كونهم وراء المصلّين باعتبار الأول ((وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ )) وهم الذين كانوا في الميدان ((فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ))، أي ليكونوا حذرين متأهبين للقتال آخذين اسلحتهم، ولعل إضافة كلمة "حذر" هنا بخلاف الجملة الأولى أن هجوم العدو على هؤلاء أقرب من هجومهم على الطائفة الأولى لأنه بمجرد الإنقسام الى الطائفتين وانسحاب طائفة من الحرب لأجل الصلاة لا يدرك العدو الأمر، ولذا لا يأخذ إستعداده الكامل للهجوم -بظن كون الجميع في حال القتال- بخلاف الأمر إذا طال الأمد وتبيّن الأمر وأن قسماً من المسلمين رفعوا أيديهم عن الحرب لأجل الصلاة، وإنما حكم بانقسام الجيش طائفتين لما بيّنه سبحانه بقوله ((وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ )) من المحاربين لكم، أي تمنّوا ((لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ)) فلا تحملوها ((وَأَمْتِعَتِكُمْ )) فتبتعدون عنها ((فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً ))، أي يحملون عليكم جملة واحدة وأنتم متشاغلون بأجمعكم بالصلاة فيقضون عليكم قضاءً حيث أصابوكم على غرّة بلا سلاح يقيكم ولا متاع يمدّكم، ولذا فقد أُمروا بأن ينقسموا طائفتين حالة الصلاة ويحملوا أسلحتهم وهم في الصلاة ((وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ))، أي لا حرج ولا إيجاب لحمل السلاح ((إِن كَانَ بِكُمْ )) أيها المجاهدون الذين تريدون الصلاة جماعة ((أَذًى )) وصعوبة ((مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ )) فلا تحملوها في حال الصلاة للإستراحة بقدر الصلاة من ثقل السلاح، أما المريض فواضح أذيّة السلاح له، وأما المطر فلأن هطوله يُثقل على الإنسان فإذا إجتمع مع السلاح كان أثقل وأتعب، وهكذا بالنسبة الى حمل الدرع الوحل حال السجود ونحو ذلك ((وَ)) لكن إذا وضعتم سلاحكم لجهة الأذى فـ ((خُذُواْ حِذْرَكُمْ ))، أي احترسوا عن هجوم الكفار حتى إذا هاجموكم تكونون على إستعداد لا أن تكونوا غافلين ((إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ ))، أي هيّء لهم ((عَذَابًا مُّهِينًا))، أي يذلّهم عذاباً في الدنيا بأيديكم وفي الآخرة بالنار والجحيم، قال في المجمع : وفي الآية دلالة على صدق النبي وصحّة نبوّته وذلك أنها نزلت والنبي بعسفان والمشركون بضجنان فتوافقوا فصلّى النبي وأصحابه صلاة الظهر بتمام الركوع والسجود فهمّ المشركون بأن يُغيروا عليهم فقال بعضهم أن لهم صلاة أخرى أحبّ إليهم من هذه -يعنون صلاة العصر- فأنزل الله عليه هذه الآية فصلّى بهم العصر صلاة الخوف.