تابع تفسير سورة النساء ...
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] ... (103)((فَإِذَا قَضَيْتُمُ ))، أي أدّيتم أيها المجاهدون ((الصَّلاَةَ )) المأتي بها على نحو الخوف ((فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا ))، أي في حال كونكم قائمين وقاعدين، وهما جمعان لقائم وقاعد ((وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ))، أي في حال الإضطجاع ((فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ )) وذهب الخوف ((فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ )) كاملة بحدودها وشروطها ((إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا ))، أي كُتبت كتاباً بمعنى فُرضت فريضة ((مَّوْقُوتًا))، أي ذات وقت محدود لأدائها.
( 104) ثم كرّر سبحانه الحثّ على لزوم الجهاد فقال ((وَلاَ تَهِنُواْ )) من وَهَن يهن بمعنى ضعف، أي لا تضعفوا ولا تكاسلوا ((فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ ))، أي طلب الكفار ومحاربتهم ((إِن تَكُونُواْ )) أنتم أيها المسلمون ((تَأْلَمُونَ )) مما ينالكم من الجرح والمشقة في الحرب ((فَإِنَّهُمْ ))، أي القوم الكفار ((يَأْلَمُونَ )) مما ينالهم من الجرح والمشقة ((كَمَا تَأْلَمونَ )) فكلاكما سواء في التألّم ((وَتَرْجُونَ)) أنتم أيها المؤمنون ((مِنَ اللّهِ ))، أي من قِبَل الله سبحانه الفتح والظفر والثواب ((مَا لاَ يَرْجُونَ)) هم فأنتم أولى وأحرى أن تطلبوهم وتجدوا في قتاالهم من أولئك حيث ليس لهم وعد بالنصر ولا بالثواب ((وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا )) بكم فأنتم بعلم الله سبحانه -كما تعتقدون- وهم وإن كانوا بعلم الله لكنهم لا يعتقدون بذلك ((حَكِيمًا))فأوامره ونواهيه عن تدبير وتقدير، ورد أن المسلمين قالوا يوم أُحُد للمشركين : لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فقال أبو سفيان : نحن لنا العُزّى ولا عُزّى لكم، فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للمسلمين : (قولوا الله مولانا ولا مولى لكم)، فقال أبو سفيان : أُعلُ هُبَل -بعد ما رفعوه فوق فرس وأخذوا يتظاهرون حوله، فقال رسول الله للمسلمين : (قولوا الله أعلى وأجل)، وروى القمّي أن الآية نزلت بعد رجوع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من واقعة أُحُد فإن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لما رجع الى المدينة نزل جبرئيل (عليه السلام) فقال : يامحمد إن الله يأمرك أن تخرج في أثر القوم ولا يخرج معك إلا من به جراحة، فأقبلوا يضمدون جراحاتهم ويداوونها على ما بهم من الألم والجراح.
( 105) وذكر جملة من الأحكام المتعلقة بالحرب والجهاد يرجع السياق الى ما تقدّم من لزوم العدل في الحكم كما قال (إنّ الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات الى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) فإن الجهاد لم يُشرّع إلا للعدل، والنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يُبعث إلا لإقامة العدل ((إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ )) يارسول الله ((الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ))، أي إنزالاً مقارناً بكونه بالحق فإن الإنزال قد يكون بالباطل إذا كان من غير المستحقّ وبما هو باطل ((لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ )) من الشريعة العدلة ((وَلاَ تَكُن )) يارسول الله ((لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا))، أي لأجل الخائنين خصيماً على الأبرياء بمعنى لا تأخذ جانب الخائن على البريء فتُعطي الحكم للمجرم.
( 106)((وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ ))، أي أُطلب غفرانه، وهذا تنبيه للأمة حيث يريدون القضاء، فإنّ القضاء يحتاج الى ستر الله سبحانه حتى لا يزلّ القاضي ((إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا)) يستر العيوب ويرحم المسترحم، وقد ورد في سبب نزول هاتين الآيتين وما بعدهما ما مجمله أن بني أُبيرق المسمون بشيراً ومبشراً وبشراً وكانوا منافقين نقّبوا على عم قتادة بن النعمان فأخرجوا طعاماً وسيفاً ودرعاً، فشكى قتادة ذلك الى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال بنو أبيرق : هذا عمل لبيد بن سهل، وكان لبيد مؤمناً فخرج عليهم بالسيف وقال : أترمونني بالسرق وأنتم أولى به منّي وأنتم المنافقون تهجون رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتنسبون الهجاء الى قريش، فداروه ثم جاء رجل من بني أبيرق وكان منطقياً بليغاً الى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال : إن قتادة عمد الى أهل بيت منّا اهل شرف وحسب ونسب فرماهم بالسرق، فاغتمّ رسول الله وعاتب قتادة عتاباً شديداً، فاغتمّ قتادة وكان بدرياً، فنزلت الآيات تبرّئ قتادة وتُدين بني أبيرق، فبلغ بشير ما نزل فيه من القرآن -وأنه الخائن- فهرب الى مكة وارتدّ كافراً.
( 107)((وَلاَ تُجَادِلْ )) يارسول الله، وكون النهي للرسول لا ينافي مقام العصمة، إذ النواهي تتوجّه الى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما تتوجّه الى سائر المسلمين، والأوامر تعنيه كما تعني غيره ((عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ )) إختان بمعنى خان، أي لا تخاصم عن طرف الخائنين الذين يخونون ((أَنفُسَهُمْ )) فإن الإنسان إذا صرف نفسه في المعصية فقد خانه لأنها وديعة يجب أن تُردّ، وردّها بصرفها في الطاعة شيئاً فشيئاً حتى ينتهي الأمد ويأتي الأجل ((إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا)) هو فعّال من الخيانة ((أَثِيمًا))، أي عاصياً، ومعنى "لا يحب" يكره لأنه لا واسطة فالعاصي مكروه والمطيع محبوب.
( 108)((يَسْتَخْفُونَ )) من "استخفى" بمعنى كتم، أي يكتمون أعمالهم السيئة ((مِنَ النَّاسِ )) فإن السُرّاق في قصة بني أبيرق كانوا يكتمون عملهم من الناس خوف الفضيحة ((وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ ))، أي لا يكتمون عملهم الإجرامي من الله، ومعنى الإستخفاء من الله عدم العمل لا العمل مكتوماً عنه، إذ لا يخفى عليه سبحانه خافية، وإنما جاء لفظة "يستخفون" للمقابلة نحو (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) ((وَهُوَ مَعَهُمْ ))، أي والحال أن الله تعالى معهم بالإحاطة والعلم فهو يعلم أقوالهم وأعمالهم ((إِذْ يُبَيِّتُونَ ))، أي يدبّرون بالليل ((مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ )) فإن أبناء أبيرق دبّروا بالليل أقوالاً وطبخوها ليتظاهروا بتلك الأقوال عند الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والمسلمين ((وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا)) فهو مطّلع على أقوالهم محيط بأعمالهم، ومعنى الإحاطة العلم الشامل بحيث لا يفوته شيء كالمحيط بالشيء الذي لا يخرج منه جانب من جوانب الشيء المُحاط.
(109)((هَاأَنتُمْ )) "ها" للتنبيه هنا، وفي "هؤلاء" ((هَؤُلاء ))، أي أنتم الذين دافعتم و((جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ))، أي عن أولئك المجرمين الذين سرقوا ((فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )) هنا حيث يمكن الإخفاء والمجادلة بما يظن الناس أنه حق وفي الواقع باطل ((فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )) إستفهام إنكاري، أي ليس هنالك من يجادل عن جانبهم في محضر عدل الله سبحانه الذي يطّلع على السرائر والواقعيات ((أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً)) يتوكّل عنهم في إنقاذهم من عملهم الذي صنعوه خُفية، والإستفهام في معنى الإنكار، أي ليس هناك وكيلاً يدافع عنهم، ولعل الفرق بين "من يجادل" و"من يكون" أن المجادل لا يلزم أن يكون وكيلاً فقد يوكل الإنسان من يدافع عنه وقد يدافع عنه شخصياً تبرعاً.
( 110) ثم بيّن سبحانه أن لا يأس من روح الله وأن الآثم لا يظن أنه إنقطعت الصلة بل باب التوبة مفتوحة ((وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا )) باتيان معصية تتعداه الى غيره كالزنا والسرقة ((أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ )) بمعصية لا تتعجاه كشرب الخمر وترك الصلاة، ومن المعلوم أن كل ظلم للنفس وكل سوء ظلم، لكن حيث تقابلا في التعبير فرّقنا بينهما بما لعله المستفاد من السياق ((ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ )) يطلب غفرانه بما أمر من التوبة والتدارك إن كان العصيان له تدارك ((يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا)) يغفر ذنبه ويتفضّل عليه بالرحمة والمنّ.
( 111)((وَ)) لا يظن الآثم أنه أضرّ الغير وربح بنفسه بل بالعكس فإنه ((مَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ )) إذ كل خير يفعله الإنسان يعود الى نفسه، وكل عصيان يأتي به يعود على نفسه (وإنما تُجزون ما كنتم تعملون) ((وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا )) بما يكسبه الإنسان ((حَكِيمًا)) في عقابه وثوابه يضع الأشياء مواضعها، فلا يظن أحد أنه يعصي ثم يفرّ من عدل الله أو أنه ما الفائدة من الخير الذي لا يعود نفعه إليه أنه سبحانه حكيم، وقد تقدّم أن الحكمة وضع الأشياء مواضعها.
( 112)((وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا )) لعل الفرق بينهما كون الأول لا عن عمد والثاني عن عمد، وهذا الفرق إنما هو في المقام حيث تقابلا وإلا فالخطيئة تُطلق على كل إثم ((ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا )) من رمى يرمي، أي ينسب ذنبه الى إنسان بريء -كما سبق في قصة ابن أبيرق- ((فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا ))، أي إثم البهتان وهو النسبة الى الناس كذباً ((وَإِثْمًا مُّبِينًا))، أي معصية واضحة، فهو يتحمّل إثمين إثم العمل وإثم البهت، وهذا لا ينافي ما احتملناه في الخطيئة إذ الخطأ ينقلب إثماً إذا تمادى الإنسان في توابعه ولم يتداركه.
( 113) في بعض التفاسير أن وفداً من ثقيف قدموا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقالوا : يامحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جئناك نُبايعك على أن لا نكسر أصنامنا بأيدينا وعلى أن نمتّع بالعزّى سنة، فلم يقبل الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) طلبهم وإنما قَبِلَ منهم الإسلام بجميع شرائطه فأنزل الله سبحانه ((وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ )) بتأييدك من لدنه وتثبيتك على الصحيح الحق ((لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ ))، أي قصدت وأضمرت جماعة من هؤلاء -والضمير عائد الى المقدّر نحو (لأبيه لكل واحد منهما السُدُس) ((أَن يُضِلُّوكَ )) بأن تُجيز لهم ما أرادوا، وقيل أن الآية من تتمّة قصة إبن أبيرق وما أراده المزكّى من تزكية السرّاق وإلقاء التهمة على البريء ((وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ )) إذ وبال كلامهم يعود الى أنفسهم، فهم يُزيلون أنفسهم عن الحق ويهلكونها لا أنهم يزيلونك ويهلكونك، ثم المراد بقوله "لولا" نفي تأثيرهم أولئك في الرسول لا نفي همهم، فالمراد أنه لولا فضل الله لأضلّوك، لا إن المراد لولا فضل الله لهمّت ((وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ )) فإنهم لا يضرّونك -بكيدهم- في الدنيا لأن الله ناصرك ولا في الآخرة ((وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ )) يارسول الله ((الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ))، أي علم وضع الأشياء مواضعها وتقدير الأشياء بأقدارها فأنت العالم بالأشياء الحكيم في التطبيق، فكيف يمكن إضلالك -كما هم أولئك- فإن الإضلال لمن لا يعرف الأشياء أو لا يتمكن من وضع الأشياء مواضعها ((وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ )) من الأمور الخارجية عن نطاق الكتاب، فإن الكتاب خاص بعلم بعض الأشياء -حسب الظاهر- ((وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ )) يارسول الله ((عَظِيمًا)) وارتباط الآية بما قبلها على القول الأول -أي كونها حول وفد ثقيف- كون القصتين من واد حيث حفظ الله الرسول في قصته السرقة وفي قصة الوفد حتى لا يقول ولا يعمل إلا بالحق.
( 114) وبمناسبة الحديث عن المؤامرات التي تجري في السر ويتناجى في شأنها المبيّتون، وحيث أن في مثل هذه القضايا لابد وأن يكثر النجوى وغالبه حول النقد والردّ والطعن، يذكر القرآن حكم النجوى وأنه ((لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ ))، أي حديث بعضهم مع بعض سراً، وذكر "كثير" أما من باب المورد فإنه في مثل الموارد السابقة يكثر النجوى، وأما أن المراد الكثير ممن النجوى لا خير فيه، أما القليل الذي لابد لكل أحد حيث عنده بعض الأسرار التي لا يجب الإعلان بها فلا بأس به لكن الظاهر الأول وإن المفهوم مطلق النجوى كما قال سبحانه (إنما النجوى من الشيطان) ((إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ )) بأي قسم منها من المال على الفقراء أو الوقف أو الإحسان ((أَوْ )) أمر بـ ((مَعْرُوفٍ )) من أبواب البِر الذي يعرفه الناس -ومنه سُمّي المعروف معروفاً مقابل المنكر الذي هو ما ينكره الناس- ((أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ )) فإن الحاجة غالباً تدعوا الى إسرار بهذه الأمور لتكمل ولا يمنع عنها مانع ((وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ))، أي النجوى في هذه الأمور، أو المراد من فعل أحد هذه الأمور ((ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ ))، أي طلب رضاه سبحانه ((فَسَوْفَ )) في القيامة ((نُؤْتِيهِ ))، أي نعطيه ((أَجْرًا عَظِيمًا)) مما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خَطَرَ على قلب بشر -كما هو كذلك في كل طاعة-.
(115)وحيث تقدّم في القصتين مخالفة الجماعتين للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيما أرادوا بيّن سبحانه أن عاقبة المخالفة وخيمة ((وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ ))، أي يخالفه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومعنى المشاقّة أي يكون كل واحد في شق غير شق الآخر ((مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى))، أي ظهر له الحق وأن الرسول لا يقول ولا يعمل إلا بالحق -أما من قبل التبيين فالمشاق معذور لعدم تمام الحجة عليه- ((وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ))، أي غير طريقهم الذي هو دينهم، وهذا أعمّ من الأول وإن كان في مخالفة للدين مشاقّة للرسول بالنتيجة ((نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ))، أي نخلّي بينه وبين معتقده وعمله فلا نجبره على الرجوع لأن الدنيا للإختبار والإمتحان، والجبر ينافي ذلك كما قال سبحانه (لا إكراه في الدين) ((وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ )) من أصلاه يصليه، أي أدخله النار، أي نتركه في الدنيا على حاله وندخله يوم القيامة النار ((وَسَاءتْ )) جهنم ((مَصِيرًا))، أي محلاً يصير إليه المجرمون.
( 116) وبمناسبة ذكر مشاقّة الرسول يبيّن سبحانه أنه لا يأس من رحمة الله تعالى، فمن تاب كان الله غفوراً فإذا أخطأ أحد فليرجع الى الله تعالى ليغفر ذنبه ويتوب عليه ((إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ)) إذا مات مشركاً كما دلّ الدليل ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ ))، أي دون الشرك ((لِمَن يَشَاء )) إن تاب وإن لم يتب ذلك رهن إرادته سبحانه، والإرادة ليست إعتباطاً بل حسب النفسيات والأعمال والقابليات وما أشبه ((وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ ))، أي يجعل له شريكاً ((فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا))، أي عن طريق الحق.
( 117) ثم بيّن سبحانه وجه ضلال المشركين بصورة فردية قبيحة فقال تعالى ((إِن يَدْعُونَ ))، أي ما يدعون ويعبدون ((مِن دُونِهِ ))، أي من دون الله ((إِلاَّ إِنَاثًا )) جمع أنثى فإنهم كانوا يعبدون اللات والعزّى ومنات وأساف ونائلة، وكان لكل قبيلة صنم تعبده، وكانوا يسمّون الأصنام أنثى فيقولون أنثى قريش وأنثى تميم، وكان الشيطان يكلمهم منها أحياناً كما أن قسماً منهم كان يعبد الملائكة ويقول أنها بنات الله كما حكى سبحانه عنهم (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا) ((وَإِن يَدْعُونَ ))، أي ما يدعون ((إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا))، أي مارداً، فإن المريد والمارد والمتمرد بمعنى واحد وهو العاصي العاتي، وكان عبادتهم للشيطان عين عبادتهم للأصنام إذ هي من صنع الشيطان وأمره فلا يستشكل بأنه كيف يجمع النفيين.
( 118)((لَّعَنَهُ اللّهُ ))، أي طرد الله الشيطان عن رحمته وقُربه، فهؤلاء يعبدون ويطيعون المطرود عن رحمة الله ((وَقَالَ )) الشيطان لله سبحانه حين طرده ((لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ ))، أي عبيدك ((نَصِيبًا مَّفْرُوضًا))، أي معلوما، والمراد من إتخاذه لهم إضلالهم وإغوائهم عن الإيمان والعمل الصالح، وقد كان يعلم الشيطان ذلك حين قال له سبحانه (فمن تَبِعَك منهم) و(لأملأنّ حهنّم منك وممن تَبِعَك).
( 119)((وَلأُضِلَّنَّهُمْ )) عن طريق الهداية، وهذا أما عطف بيان لقوله "أتخذنّ" أو المراد من الإختصاص أي أختص بجملة من عبادك فأضلّهم ((وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ )) من الأُمنية، أي أُمنّيهم طول البقاء في الدنيا وحب الرئاسة والمال حتى يعصون ((وَلآمُرَنَّهُمْ )) بالوسوسة والإلقاء في قلوبهم ((فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ )) من بتّك ويبتّك بمعنى قطع يقطع، فقد كان المشركون يقطعون آذان الأنعام علامة على حُرمة ركوبها وأكلها وشرب لبنها، وكان ذلك حراماً إذ هو من المُثلة وقد قال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : (لا يُمثّل ولو بالكلب العَقور) كما إن تحريمهم كان بدعة وتشريعاً محرماً ((وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ )) من التغيّرات المحرّمة كخصاء العبد وفقئ عين الدابة والتمثيل بالأحياء والأموات وما أشبه ذلك، ومن الآية يُستفاد أن كلّ تغيير في الخلق حرام إلا ما دلّ عليه الدليل،، وبعد ما ذكر سبحانه بعض أقسام أمر الشيطان التي كانت دارجة في ذلك الزمان والى زماننا هذا جعل الكل في إطار عام وأعطى القاعدة الكلية المنطبقة على كل جزئي بقوله سبحانه ((وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا )) يلي أموره ويطيع أوامره ((مِّن دُونِ اللّهِ)) قيد توضيحي للتهويل لا أنه من الممكن الجمع بين إتخاذ الشيطان وإتخاذ الله سبحانه ((فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا))، أي خسراناً ظاهراً.
( 120)((يَعِدُهُمْ ))، أي يَعِد الشيطان أوليائه النصر والسعادة إن إتّبعوه ((وَيُمَنِّيهِمْ )) بالأماني الكاذبة الباطلة حتى يركنوا الى الدنيا ويتركوا الآخرة ويرجّحوا الشهوات على الأعمال الصالحة ((وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا)) كل وعده غرور وكذب يغرّ به البسطاء الغافلين.
( 121)((أُوْلَئِكَ )) الذين اتخذوا الشيطان ولياً وناصراً ((مَأْوَاهُمْ ))، أي مرجعهم ومحلهم ((جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا ))أي عن جهنم -فإنها مؤنثة سماعية- ((مَحِيصًا))، أي مخلصاً ومهرباً من حاص بمعنى عدل وانحرف.
( 122) هذا لمن اتخذ الشيطان ولياً، أما من اتخذ الرحمن ولياً ((وَالَّذِينَ آمَنُواْ )) بما يجب الإيمان به من أصول الدين ((وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ))، أي الأعمال الحسنة ((سَنُدْخِلُهُمْ )) قيل أن السين و"سوف" بمعنى واحد، وقيل أن السين للمستقبل القريب وتُستعمل الكلمتان بالنسبة الى الجنة باعتبارين : فباعتبار أن كل آت قريب تُستعمل السين ، وباعتبار فصل البرزخ الطويل تُستعمل "سوف" ((جَنَّاتٍ )) جمع جنّة وهي البستان، سمي بها لكونها مستورة بالأشجار من جنّ بمعنى ستر ومنه الجِن والجنين والجُنّة ((تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ))، أي من تحت أشجارها وقصورها ((خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا )) لا إنقطاع لها ولا زوال ((وَعْدَ اللّهِ حَقًّا ))، أي وعد الله ذلك وعداً في حال كونه حقاً أو متصفاً بكونه حقاً لا خَلَفَ فيه ولا كذب ((وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً))، أي من حيث القول فهو أصدق القائلين خبيراً ومُخبراً، والإستفهام في معنى النفي، أي لا أصدق من الله، والسبب أن الإنسان مهما أوتي من الصدق فإنه قد يجهل وقد لا يقدر وقد يشتبه والله منزّه عن جميع ذلك.
(123)ثم يبيّن السياق القاعدة الكلية للعمل والجزاء بعد ما بيّن ما لمن أشرك وما لمن آمن، فقال سبحانه ((لَّيْسَ )) أمر الثواب والعقاب والسعادة والخسران ((بِأَمَانِيِّكُمْ )) جمع أُمنيّة بمعنى رغبة النفس، فلا ينال الإنسان خيراً بالأماني فيما إذا كان عمله خلاف ذلك، والخطاب للمسلمين ((وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ )) في المجمع قيل : تفاخر المسلمون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب : نبيّنا قبل نبيّكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولى بالله منكم، فقال المسلمون : نبيّنا خاتم النبيّين وكتابنا يقضي على الكتب وديننا الإسلام، فنزلت الآية، فقال أهل الكتاب : نحن وأنتم سواء فأنزل الله الآية التي بعدها "ومن يعمل من الصالحات .." ففرح المسلمون ((مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ )) فإن الذي ينفع عند الله هو العمل الصالح أما الأنساب والأحساب وما أشبه فلا تنفع إلا بقدر يرجع الى العمل أيضاً كما قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : (المرء يُحفظ في ولده) ولذا من عَمِل سيئاً جُزي به، وبما ذكرنا تبيّن أن حفظ نسب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنما يرجع الى أتعاب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة عليهم السلام ((وَلاَ يَجِدْ )) العامل للسوء ((لَهُ مِن دُونِ اللّهِ )) غير الله ((وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا))فلا أحد يتولّى أمره وينصره.
( 124) ولما كان الأمر محتملاً لأن يشمل أهل الكتاب إذا لم يعملوا سوءاً المفهوم من الآية السابقة، ذكر سبحانه أن من شروط قبول الأعمال الخيّرة الإيمان الكامل ((وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ))، أي بعض الصالحات فإن الصالحات كلها لا يمكن أن يُؤتى بها (( مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى )) ولعل التنصيص هنا لإفادة العموم ولدفع وهم جرى التقاليد الجاهلية التي كانت تقضي بأكل الرجال ثمار الأعمال الطيبة للنساء وحرمان النساء عن الحقوق ((وَهُوَ مُؤْمِنٌ )) -بما في الكلمة من معنى- لا إيمان ببعض الأصول دون بعض ((فَأُوْلَئِكَ )) العاملون المؤمنون ((يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا))، أي قدر نقير وهو النكتة الصغيرة المنخفضة في ظهر النواة التي منها ينبت.
( 125) ثم بيّن سبحانه فوائد الإيمان ومزاياه وأنه أحسن من جميع الطرق والمذاهب ((وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا )) الدين هو الطريقة التي يسلكها الإنسان في حياته لأجل نيل السعادة، والإستفهام في معنى الإنكار، أي ليس أحد أحسن طريقة ((مِّمَّنْ أَسْلَمَ )) وأخضع ((وَجْهَهُ لله )) والمراد بالوجه الذات والنفس، وإنما ذكر الوجه لأن خضوع الوجه كاشف عن خضوع الذات، ومعنى إسلام الوجه الإيمان بالله حيث أنه إعترف به وخضع له ((وَهُوَ مُحْسِنٌ ))، أي يُحسن الأعمال فيتّبع الأوامر والنواهي، وإنما لم يكن أحد أحسن ديناً من هذا الإنسان لأن الإيمان إعتراف بالحقيقة الكبرى، والإحسان عمل بما هو الأصلح إذ ما يقرره الإله العليم الحكيم أحسن مما يقرره البشر الجاهل ذو الطيش والسفاه ((واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ))، أي طريقته ((حَنِيفًا ))، أي في حال كون إبراهيم (عليه السلام) مستقيماً في الالطريق عقيدة وعملاً، فإيمان وإحسان وإتباع طريقة صحيحة وقد تكرر في الكتاب والسنّة لزوم إتباع إبراهيم (عليه السلام) لأن دينه لم يكن تطرّق إليه التحريف الذي تطرّق الى كتابي الكليم والمسيح (عليهما السلام) بالإضافة الى أن موسى (عليه السلام) وعيسى (عليه السلام) كانا بعد إبراهيم (عليه السلام) وأنه (عليه السلام) بصفته أب المسلمين العرب كان ذكره محفّزاً لهم على الإيمان أنه طريقة جدهم كما قال سبحانه (ملّة أبيكم إبراهيم) ((وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً)) من الخِلّة بمعنى الحب والوِد لإبراهيم (عليه السلام) بإطاعته لله أن صار خليل الله، فما يمنع الناس أن يتّبعوا طريقة إبراهيم كي ينالوا حب الله ورضاه.
( 126) وأخيراً فمن الأحسن إتباع طريقه الإله الذي له كل شيء وهو عالم بكل شيء ((وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ )) فهو المالك لكل شيء وإذا أراد الإنسان إتباع طريقة للنفع فليتبّع طريقة من له كل نفع ((وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا))، أي حاطة علمية لا يعزب عنه شيء وإحاطة بالقدرة إذا المُحيط بالشيء يقدر عليه.
( 127) قد سبق قوله سبحانه (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراكَ الله) وقد سبق الكلام في الآيات التالية حول هذا الموضوع مع شيء من الإستطراد ثم يأتي السياق ليبيّن بعض أحكام النساء فإنه من الحكم بين الناس بما أراه الله سبحانه ((وَيَسْتَفْتُونَكَ )) يارسول الله ((فِي النِّسَاء ))، أي يسألونك الفتوى -وهو تبيين المُشكل من الأحكام- فقد سألوا الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن الواجب لهنّ وعليهنّ وكيفية معاشرتهنّ ((قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ))، أي في النساء وإنما نَسَبَ الجواب الى الله سبحانه لتقوية إفادة أن الحكم لا يصح إلا من الله سبحانه فليس لأحد أن يحكم إطلاقاً وقد سُأل مثل هذه الأسئلة في غير الأحكام فجاء الجواب بدون النسبة إليه تعالى نحو (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) و(يسألونك ماذا ينفقون) و(يسألونك عن الأهلّة) وهكذا (( وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ )) عطف على "الله"، أي أن الفتوى في باب النساء تأخذونه من الله سبحانه -بما سيأتي- وتأخذونه بما تُليَ عليكم في القرآن -سابقاً- فقد سبق في ابتداء السورة (وإن خِفتم أن لا تُقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء) و(وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدّلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم الى أموالكم) والحاصل أن الفتوى -أي تبيين مسائل النساء- يأتي فيما يقول الله وفيما سبق، ((فِي يَتَامَى النِّسَاء ))، أي البنات الصغيرات اليتيمات ((الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ ))، أي لا تعطونهنّ ((مَا كُتِبَ لَهُنَّ )) من الصِداق، فقد كان أهل الجاهلية لا تعطي اليتيمة صِداقها لتمنع هذه العادة، فقوله "في يتامى" متعلق بـ "ما يُتلى"، أي تأخذون الفتوى في أمر النساء من الله ومما تلي عليكم سابقاً في باب النساء اليتامى اللاتي تحرمونهنّ عن مهورهنّ ((وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ))، أي تريدون نكاحهنّ لأكل أموالهن، ثم إن قوله "وما يُتلى" بصيغة المضارع للإستمرار لا الإستقبال ((وَ)) ما يُتلى عليكم في ((الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ ))، أي ما تقدّم في باب أمر الأيتام وهو قوله سبحانه "واتوا اليتامى أموالهم" فإنه عام يشمل اليتيمات أيضاً ((وَ)) ما يُتلى عليكم في ((أَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ ))، أي بالعدل كما تقدّم في قوله "وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى" والحاصل أنّ الله يُفتيكم وما تقدّم في القرآن من آيات اليتامى يُتيكم، ثم جمع سبحانه الكل في إطار عام فقال ((وَمَا تَفْعَلُواْ )) أيها المؤمنون ((مِنْ خَيْرٍ )) عدل وإحسان بالنسبة الى النساء ((فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا)) يعلمه ويُجازيكم عليه بحسن الثواب.
(128)ثم توجّه السياق الى بعض أحكام النساء إيفاءً لقوله سبحانه "قل الله يُفتيكم فيهنّ" وذلك حكم النشوز، فقد كانت بنت محمد بن سلمة عند رافع بن خديج وكانت قد دخلت في السن وكانت عنده إمرأة شابة سواها فطلّقها تطليقة حتى إذا أبقى من أجلها يسير قال : إن شئتِ راجعتكِ وصبرتِ على الأثرة وإن شئتِ تركتكِ، قالت : بلى راجعني وأصبر على الأثرة، فراجعها فنزلت ((وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا ))، أي من زوجها ((نُشُوزًا )) إرتفاعاً عليها بأن لا يعاملها معاملة الأزواج بل يعاملها وكأنه أرفع منها ((أَوْ إِعْرَاضًا ))، أي يُعرِض عنها إطلاقاً أو طلاقاً ولقد خافت لظهور إمارات ذلك ((فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا ))، أي على الزوجين ((أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا)) الضمير في "يُصلحا" راجع الى الزوجين، أي يصطلحا فيما بينهما ((صُلْحًا ))، أي نوع من أنواع الصلح الجائز كان، فتتنازل هي عن بعض حقوقها ليبقى النكاح على حاله ولا تحصل الفرقة أو نحوها ((وَالصُّلْحُ )) بينهما ببقاء الزواج والأُلفة ((خَيْرٌ )) من الإفتراق والشقاق ((وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ )) الشُّح البخل وعدم التنازل عن الحقوق ، أي إن الأنفس يخلطها الشُّح فلا هي ترغب أن تتنازل عن بعض حقوقها لتبقى الأُلفة ولا الزوج مستعد لأن يعاشرها معاشرة صالحة لئلا ينتهي الأمر الى الطلاق ((وَإِن تُحْسِنُواْ )) يُحسن أحد الزوجين الى الآخر ((وَتَتَّقُواْ )) فلا تفعلوا ما يوجب سخط الله، فإن الغالب أن يرتكب أحد الطرفين الحرام فيما حدث بينهما إصطدام ((فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)) فيُجازيكم عليه ولا مفهوم للآية بأنه "إن لم تُحسنوا فلا يعلم الله" كما هو واضح بل الشرط أتى به للتحريض والترغيب.
( 129) ثم ذكر سبحانه حكم تعدد الأزواج وأنه لا يمكن التسوية بينهنّ في الحب والوداد، فإذا كان الميل القلبي يميل كلياً الى جهة فاللازم حفظ العدالة بين الزوجات لئلا تبقى ببعضهنّ كالمعلّقة ((وَلَن تَسْتَطِيعُواْ )) أيها الرجال -أبداً- ((أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء )) عدالة في المودة والحب فإنه ليس بأيديكم، ولابد أن تكون بعض النساء أقرب الى قلوبكم من بعض ((وَلَوْ حَرَصْتُمْ )) في العدالة القلبية ((فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ )) الى جانب إمرأة من زوجاتكم المتعددة ((فَتَذَرُوهَا))، أي المرأة التي لا تميلون إليها ((كَالْمُعَلَّقَةِ )) التي علقت فلا هي مستريحة بالزوج ولا هي مستريحة بعدم الزوج فيتكون في عذاب وشقوة، وإذا لم يكن باستطاعتكم العدالة فباستطاعتكم عدم الميل الكلي، وقد روي عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنه كان يقسّم بين نسائه ويقول : (اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)، وقد ورد أنه سُئل الصادق (عليه السلام) عن الجمع بين هذه الآية وبين وقله (وإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة) فقال : (أما قوله "فإن خفتم ألا تعدلوا" فإنه عني في النفقة وأما قوله "ولن تستطيعوا أن تعدلوا" فإنه عني في المودة فإنه لا يقدر أحد أن يعدل بين امرأتين في المودة) ((وَإِن تُصْلِحُواْ )) بالتسوية في القسمة والنفقة الواجبتين ((وَتَتَّقُواْ )) باجتناب المحرّمات وذلك بترك الميل الكلي الذي نهى الله عنه ((فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا )) يغفر ما صدر منكم من الذنوب ((رَّحِيمًا)) يرحمكم بلطفه ويسبغ عليكم فضله.
( 130)((وَإِن يَتَفَرَّقَا ))فيما إذا ما اصطلح الزوجان بل طالبت هذه بكل حقوقها وأراد الرجل الميل فخيّرها بين الطلاق والتنازل عن بعض حقوقها فاختارت الطلاق فتفرّقا ووقع الإفتراق ((يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ )) من الزوجين ((مِّن سَعَتِهِ ))، أي سعة فضله ورحمته فليس بابه مرتجاً في وجه أيّ من الطرفين بل الرجل يستغني عن هذه المرأة بإمرأة أخرى وعيش آخر، والمرأة تستغني عن هذا الرجل برجل آخر وسعادة هنيئة، وفي هذه الجملة لفتة مشرقة لجبر إنكسار قلب الطرفين إذ من المعلوم أن كلاً منهما ينكسر قلبه حين الإفتراق ولو كان هو السبب للفراق ((وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا)) في فضله (( حَكِيمًا)) فيما يأمر وينهي ويفعل ويريد، ونسبة السِعة إليه مريداً به السعة في فضله مجاز.
( 131) ثم ذكر سبحانه أنه يملك كل شيء فهو يقدر على إغناء الزوجين من فضله ((وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ )) قد تقدّم أن المراد بـ "ما في" الأعم من الظروف والمظروف ((وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ))، أي اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم ((مِن قَبْلِكُمْ )) إشارة الى كون الوصيّة لم تزل من القديم ((وَإِيَّاكُمْ ))، أي وصّيناكم أيها المسلمون ((أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ ))، أي خافوا عقابه فاعملوا بالأوامر والنواهي ((وَإِن تَكْفُرُواْ )) كفراً في العقيدة بانكار الأصول، أو كفراً في الفروع بالعصيان ((فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ )) فلا يضرّه كفركم ولا ينفعه إيمانكم وعملكم ((وَكَانَ اللّهُ غَنِيًّا )) لا يحتاج الى إيمانكم ولا الى أعمالكم وإنما أنتم تحتاجون الى ذلك ((حَمِيدًا))، أي مستوجباً للحمد عليكم بصنائعه الحميدة.
( 132) ثم يؤكد غناه سبحانه وأنّ له كل شيء بقوله ((وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ )) ليس شيء لغيره حتى إذا قطع عنكم رحمته تحصلون على ما تريدون من غيره ((وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً))، أي إنه أحسن وكيل وأكفى وكيل، فلا يحتاج الإنسان الى وكيل آخر إذا وكّله سبحانه في أمره، وقد قيل في وجه التكرير في الآية ثلاث مرات أن الأول لإيجاب طاعته حيث له كل شيء والمالك يجب طاعته على المملوك، والثاني لأن الخلق محتاجون إليه وهو الحميد المطلق فإنّ ذلك لا يكون إلا بمن له كل شيء، والثالث لبيان أنه يكفي توكيله -مطلقاً- فإنّ ذلك لا يكون إلا لمن يملك كل شيء.
( 133)((إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ )) أنه في غِنى عنكم وقدرته تعمّكم فناءاً وإيجاداً، فإن أراد أذهبكم وأفناكم وأهلككم ((وَيَأْتِ بِآخَرِينَ )) أُناساً آخرين يوجدهم من العدم ((وَكَانَ اللّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا)) يقدر على إنقاذه.
(134)ولقد كان المنافقون يتّبعون النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للغنيمة وللتحفّظ على دنياهم، وحيث تقدّم أن لله ما في السموات والأرض ذَكّرهم بأن الإطاعة توجب خير الدنيا والآخرة فلِمَ لا يسلكون أنفسهم في سلكها ((مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا ))، أي منافعها فإن الثواب من "ثابَ" بمعنى رجع، فإنّ الثواب جزاء العمل الصادر من الإنسان يرجع إليه ((فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ )) إذ يملك الجميع وبيده أزمّة الكل فلِمَ لا يطيعون حتى ينالوا الأمرين ((وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا )) لأقوالهم ((بَصِيرًا)) لأعمالهم.
( 135) ولما ذكر سبحانه أن عنده ثواب الدنيا والآخرة عقّبه بالأمر بالعدل وعدم الجور كي ينالوا الثوابين، وقد سبق الأمر بالعدل في قوله "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" فقال
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ )) قد تقدّم أن الخطاب إنما خُصّص بالمؤمنين لأنهم المنتفعون السامعون وإلا فالأوامر والنواهي عامة للجميع ((كُونُواْ قَوَّامِينَ )) جمع قوام وهو كثير القيام ((بِالْقِسْطِ)) هو العدل، أي كونوا دائمين في القيام بالعدل بأن تكون عادتكم على ذلك قولاً وعملاً، ولعل في ذلك إشارة تنبيه على ما اعتاده الناس من أنهم لابد وأن يزيغوا عن العدل إذا تمادت بهم الأزمان، ولذا نرى من الحكام من يتنزّه عن الجور في أول مرة ثم إذا امتدّ به الزمان زاغ وانحرف ((شُهَدَاء )) جمع شهيد ((لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ))، أي اشهدوا بالحق -لأجل أمر الله ورضاه- ولو كانت الشهادة في ضرركم ونفع الغير ((أَوِ )) على ((الْوَالِدَيْنِ ))، أي في ضررهما لنفع الغير إذا كان الحق مع الغير ((وَ)) على ((الأَقْرَبِينَ ))، أي من يتقرّب بكم بنسب فلا تميلوا عن الحق لنزوات أنفسكم أو ملاحظة الوالدين أو رعاية الأقربين ((إِن يَكُنْ )) المشهود له أو المشهود عليه ((غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا )) فلا تشهدوا للغني أو للفقير باطلاً مراعاة لغناه أو رعاية لفقره شفقة عليه ((فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا )) أنه سبحانه أولى بالغني والفقير وانظر لحالهما من سائر الناس، ومع ذلك فقد أمَرَكم بالشهادة على الحق فلابد من ملاحظة أمره لا مراعاة الغني لغناه أو الفقير شفقة عليه ((فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى ))، أي هوى النفس في الحكم الجائر ((أَن تَعْدِلُواْ ))، أي لإن تعدلوا، وذلك كقولهم : لا تتّبع هواك لترضي ربك، أو المعنى : لا تتّبعوا الهوى في أن تعدلوا من الحق ((وَإِن تَلْوُواْ )) من لوى يلوي بمعنى الإنحراف، أي أن تنحرفوا أيها المؤمنون -في حال الحكم- عن الحق ((أَوْ تُعْرِضُواْ )) عن الحق إطلاقاً، ولعل الفرق أن الليّ الإنحراف اليسير والإعراض الإنحراف مطلقاً ((فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)) فيعلم الإنحراف والإعراض ويجازيكم عليهما كما يعلم إقامتكم للحق.
( 136) ثم أنه سبحانه بعد أن ذكر لزوم القيام بالقسط بيّن لزوم الإيمان الحقيقي عن قلب وعقيدة الذي لا يكون القيام بالقسط إلا إذا توفّر في الإنسان ذلك الإيمان ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ )) في الظاهر فإن الخطاب موجّه الى كل من أظهر لا إله إلا الله محمد رسول الله، ومن المعلوم أن كثيراً منهم كانوا مؤمنين لفظاً فقط ((آمِنُواْ )) إيماناً راسخاً من عقيدة وجوانح ((بِاللّهِ وَرَسُولِهِ)) محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ((وَ)) آمنوا بـ ((الْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ )) وهو القرآن الكريم ((وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ ))، أي جنس الكتاب، فقد كان من شرائط الإيمان بكتب الله جميعاً ((وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ )) بأن يجحدهم أو يعاديهم أو يُنزلهم عن المنزلة اللائقة بهم ((وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ )) وإن كان بجحد أحد من الرسل أو أحد من الكتب ((وَالْيَوْمِ الآخِرِ )) بأن جحد أو شكّ في المعاد ((فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا)) عن الحق كمن يضل الطريق ويبعد عنه كثيراً وذلك في قبال من يعمل محرماً أو ما أشبه فإنه قد ضلّ ضلالاً لكن لا بذلك البُعد.
( 137) وبعدما ذكر سبحانه لزوم الإيمان واقعاً بيّن حالة أولئك الذين لا يؤمنون إلا سطحاً، ولذا يميلون مع كل جانب قوي فإذا قوى الإسلام آمنوا فإذا ضعف كفروا، وهكذا يتراوحون بين الإيمان والكفر حتى يموتوت وهم كفّار لتغلّب الطبيعة الكافرة فيهم ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ )) أما كفراً باللفظ أو بالقلب، فإن كثيراً من الأشخاص الذين يقدمون على الإيمان يقدمون عليه سطحياً وبمجرد هبوب ريح يكفرون قلباً وإن بقوا في الظاهر مؤمنين ((ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ )) وهذا من باب المثال وإلا فليس للتكرر أربع مرات مزية لا توجد في المرتين أو في الست أو ما أشبه ((ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا )) بأن تطبّعت قلوبهم بالكفر فلم يؤمنوا ((لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ )) لأنهم بقوا كافرين و('ن الله لا يغفر أن يُشرك به) ((وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً))، أي طريقاً الى الجنة والخلاص كما قال سبحانه (ليهديهم طريقاً إلا طريق جهنم) ويحتمل أن يكون المعنى أنه يخذلهم في الدنيا ولا يلطف بهم عقوبة لهم على كفرهم فلا يهتدون الى الحق بعد ما تكرر منهم الإيمان والكفر.
( 138)((بَشِّرِ )) يارسول الله ((الْمُنَافِقِينَ )) الذين هم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر -خلافاً لما تقدّم من قوله (ياأيها الذين آمنوا آمِنوا)- والبشارة هنا مجاز للإستهزاء كما يُقال للزنجي كافور ((بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)) يؤلمهم جسدياً ونفسياً، ولعل هذه الآية تدل على كون الآية المتقدمة في شأن المنافقين، وأن المراد بالكفر الكفر القلبي الذي كانوا يتراوحون بين الإذعان والكفر مع التحفّظ على ظاهرهم في الإيمان.
( 139) وبمناسبة النفاق ذكر سبحانه أظهر ميزات المنافق، فقال ((الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء )) وأحباء عن صميم قلبهم ((مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ))، أي لا يتخذون المؤمنين أولياء بل يعاملونهم معاملة ظاهرية فقط لتأمين حياتهم وإنما قلوبهم مع الكفار وميلهم إليهم ((أَيَبْتَغُونَ ))، أي هل يطلبون ((عِندَهُمُ ))، أي عند الكفار ((الْعِزَّةَ )) الدنيوية، فإن الغالب أن المنافق إنما ينافق تحفظاً على دنياه -أي على عزته المزعومة التي يجدها في ضلال الكفر وبمؤاخات وصداقة الكافرين- ((فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا)) إذ بيده الدنيا بجميع ما فيها فلو آمنوا حقيقة لكان لهم من العزّة ما ليس للمنافقين لأن دنياهم تعمر بالإضافة الى عزّتهم الظاهرية عند المؤمنين فإنّ المنافق منفور لا عزّة له عند الكتلة المؤمنة.